التصنيفات
التعلم الآلي الطاقة المستقبل

أين ستكون النماذج اللغوية الكبيرة في واقع البشر مستقبلاً؟

في السنتين الأخيرتين تضاعف تعداد مستخدمي جات جي بي تي (Chat GPT) فيما حقق النموذج اللغوي الكبير أعلى مردود مادي وصل إليه 2.3 مليار دولار بعد مدخولات أقل من ذلك بكثير في الأعوام 2023 فما دون. لكن هذا الدخل لا يقارن بالكلفة التشغيلية للنموذج وما تم صرفه حتى الآن لأغراض التطوير. لو قرأنا عن التمويل الذي حصل عليه، أو فقط الجانب المعلن عنه لوجدنا أن هناك عدة جولات من التمويل حصل فيها النموذج على بضعة مليارات من الدولارات. كيف سيستقر سوق النماذج اللغوية الكبيرة والى أي مدى ستتوسع وهل ستصبح محدودة بعد فترة ما؟

بالنسبة للكثيرين تصبح النماذج اللغوية نموذجا جديداً لطلب المعلومات بدلاً من محركات البحث. ويزداد عدد هؤلاء بشكل كبير. لكن فضلاً عن طلب المعلومات فإن طبيعة المهام تعد مكلفة أكبر بعشر مرات على الأقل من البحث في محرك جوجل. وسؤالي الأساسي الآخر هنا، هو هل يمكن أن تكون هذه التقنية مستدامة بهذا الشكل، أي مربحة ومجانية؟ في الواقع رغم ان هناك خطط للاشتراك في نماذج الذكاء الاصطناعي فمن الواضح أنها لا تسد مصاريف التشغيل والتطوير لهذه التقنية. من الواضح أننا في مرحلة وسيطة يتم فيها توطيد التقنية قبل تثبيت النموذج المستدام اقتصاديا لما يوفرونه.

من الفروقات المهمة بين محركات البحث وبين النماذج اللغوية الكبيرة هو أن النماذج اللغوية الكبيرة لا تمتلك ذات المرونة في عرض النتائج وفي إمكانية استخدامها في التسويق أو في توفير إعلانات مدفوعة. نسمع دوماً ” اذا كانت البضاعة مجانية فربما أنت البضاعة”، لكن هل ينطبق هذا على نماذج الذكاء الاصطناعي؟ بلا شك هناك سبل عديدة لفهم طبيعة الاستخدام وتكوين حالات ربحية منها. احد تلك النماذج هو استخدامها كبديل لوظائف عديدة وهو ما يحدث. وما أزعم حدوثه هنا هو أن النماذج اللغوية الكبيرة بهيئتها المجانية قد لا تستمر وقد يكون هناك نماذج لغوية كبيرة محدودة الإمكانيات توفر مجاناً، لكن من غير المنطقي ادامة تلك التكنلوجيا للجميع ومجاناً باعتبار أنها أكبر كلفة ومن الأصعب أن تتم الاستفادة منها مادياً من قبل صانعيها عبر توفيرها للجميع باستثناء ما يمكن أن يتعلمونه عن حالات استخدامها.

تتمثل الكلفة الأكبر للنماذج اللغوية الكبيرة باستهلاكها العالي للمياه والطاقة، وتواجه هذه الموارد تحديات كبيرة في هذا القرن. حتى جوجل وشبكات التواصل الاجتماعي اضطروا الى تغيير طبيعة عملهم عبر السنوات ربما استجابة لتغير كلف التشغيل أو على الأقل فإن هذا سبب وارد. ما أجده غير منطقي هو أن تستمر النماذج اللغوية الكبيرة بشكل مجاني لتجيب أسئلة بسيطة جدا لعشرات السنين ولمليارات المستخدمين وبكل ما تكبده من كلف للشركات والمانحين. لا أعتقد أن هذا يمكن أن يستمر.

قد يقول قائل أن كفاءة التقنية ستتحسن من حيث الطاقة ومن حيث الحرارة، وهنا أرد كما تعلمت من مدير جوجل السابق، ايريك شميدت، حيث سمعته في بودكاست يتحدث عن هذا الوهم: كلما بلغت التقنية سقفاً جديداً في تطوير استهلاك الطاقة او في تقليل الحاجة للتبريد فإن ذلك سيتم تعويضه بالمزيد من الاستهلاك والمزيد من المكائن.

إن قيمة الطاقة بالنسبة لنا تتغير، ترتفع قيمتها تدريجياً. تغير سعر النفط الخام وفقاً لثلاثة مراحل الأولى تمتد من مرحلة الاستكشاف الى انتشار الآلات التي تحتاج الى المزيد من الطاقة في السبعينات. ثم حدثت قفزة أكبر كجزء من انتشار التكنلوجيا في العالم حتى التسعينات. بعد احتلال العراق والازمة المالية قفز النفط مرة أخرى وهذه هي الفترة التي نعيش فيها حالياً. لا يحتاج النفط للقفز قفزة أخرى لكن من الممكن أن يحدث صعود تدريجي مستمر نتيجة كل ذلك التضخم في التعداد السكاني وكل ما يرتبط بذلك فضلاً عن عدم اكتشاف حقول جديدة. ولمن يريد الخوض في المصادر البديلة فهذا مرحب به أيضاً، كونها كلها أغلى من النفط بكثير واذا فكرنا بالانتقال التام اليها في هذا القرن فمن أول ما يترتب على ذلك هو ارتفاع ثمن الطاقة. تضاعف توليد الطاقة الكهربائية من المصادر البديلة في بريطانيا على سبيل المثال مرات عديدة حتى بلغ نصف التوليد في العام الماضي، لكن في نفس الوقت فإن كلفة الكهرباء تضاعفت ثلاثة مرات.

وبما ان قيمة الطاقة سترتفع فإن احد المحددات الرئيسية لثمن الذكاء الاصطناعي يتمثل بثمن الطاقة. الطاقة ليست ميسورة الثمن للجميع، وهكذا فإن الثمن الجديد للذكاء الاصطناعي سيكون مرتفعاً بما يكفي ليصبح شريكاً للعامل في مهنته أو بديلاً له يدفع له مبلغ أقل بقليل فقط من راتب العامل.

من الأسباب التي أعتبرها بعيدة المدى مقارنة بالطاقة والمياه هو سقف إمكانيات الذكاء الاصطناعي وسقف استخداماته. حتى الآن لا نرى الكثير من الحالات التي تمكن من الاعتماد التام على هذه التقنية. ومن يراهن على التطور هنا فإن لهذه التقنية حدوها. لهذا السبب فإن هناك مجالات عديدة من أبحاث الذكاء الاصطناعي على كافة المستويات من الهاردوير الى البرمجيات من أجل تكوين ذكاء جديد، ذكاء يفوق ما يمتلكه البشر حقاً وليس خلطة إحصائية لما قالته البشرية وكتبته وصنعته. حتى الآن لا نعلم كيف ستتمدد التقنية وأين ستتوقف وتفشل لكن من الوارد أن تفشل في مجالات معينة.

أما السبب الثالث الأبعد فهو ما تحدثه التقنيات من تطبيع للمهارات بعد أن تتفاعل ادمغة البشر معها الى ان تصل الى حالة توازن مع التقنية. بخصوص النماذج اللغوية الكبيرة، فهي تعتمد بدرجة كبيرة على ما ولدناه من نصوص، لكن هل تستطيع تلك النماذج أن تتطور لما يفوق ذلك؟ هذا غير ممكن. من الممكن حدوث طفرات بسيطة من استخدام بيانات أسئلة المستخدمين مثلاً. من الممكن أن تصبح النماذج اللغوية الكبيرة كفؤة جداً في معالجة بعض المشاكل لتحل محل مهن بأكملها وتحقق المزيد من الربح لمالكي الشركات مقابل الاستيلاء على وظائف هؤلاء الناس، لكن يبقى ذلك التوازن محدوداً بين مهاراتنا وما نقدمه من معلومات جديدة توفر فرص للتطور للنماذج اللغوية الكبيرة وهذا سيبدأ بالتوقف قريباً.

أشعر أنني لا احتاج الى الرد على مقولة أن البشر يتطورون وسيتطورون أكثر ليجدوا وظائف جديدة وآفاق جديدة، لأننا رأينا عبر العقود الماضية كيف أن هناك فئة تتطور من البشر فيما أن هناك فئة تنتكس ولا تستطيع المواكبة. لم يوجد البشر ليصبحوا مكائن للإنتاج وكثير منهم غير قادرين على ذلك. لكن الأهم هو أن الوظائف المجزية هي أقل بكثير من عدد البشر حتى لو تمكن البشر من حيازة أفضل العقول. العمل يصبح امتيازاً، لكن هذا ليس الموضوع هنا فأنا لست متشائما كلياً حول الأمر، بل كل ما أقوله هو أن النماذج اللغوية الكبيرة قد تصبح مدفوعة الثمن وغالية في العقد القادم وألا يستطيع أي شخص الحصول عليها مجاناً الا ما هو محدود منها كما أننا سنعرف حدودها وستصبح تلك الحدود جزءاً من تفكيرنا أيضاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *