التصنيفات
عربي فلسفة

قراءة في مسلسل هجوم العمالقة

مضى زمن طويل منذ شاهدت حبكة قصصية بهذه الجودة وربما لم أشاهد شيئاً كهذا من قبل. اعتقد أن القصة تم تصميمها وهندستها لا أنها كتبت من وحي الإلهام والخيال فحسب. في البدء أنا لست خبيراً بالمانغا بل ولست حتى مشاهداً، لكن لفتت نظري ملاحظة عابرة مما شاهدته من الطفولة حتى الآن وهي الولع الياباني بالعمالقة والتحكم بهم سواء الآليين مثل جريندايزر أو عمالقة مثل هجوم العمالقة. لاحقاً وجدت ببحث بسيط أن فكرة العمالقة ليست طاغية على الاطلاق على أعمال المانجا مثل يرسخ طابع الفنون القتالية الخارقة على أعمال أخرى كثيرة للمانجا. لكن يبقى وجود العمالقة مثيراً للاهتمام عندما افكر بوجود ميل جنسي نادر لدى اليابانيين وغيرهم حول الالتهام، حيث تبدو فكرة التهام الشخص من قبل امرأة عملاقة فكرة مثيرة جنسياً. بشكل عام الآلهة لدى اليابانيين في الشنتو ليسوا عمالقة وفكرة العملاق بحد ذاتها ليست مقدسة لكن يبدو التحكم بالعملاق أمراً مثيراً للاهتمام لديهم.

عودة الى هجوم العمالقة، سأحاول ألا أحرق الأحداث قدر الإمكان لمن لم يشاهدها حتى الآن. العمل ينتمي الى الاعمال التي تلتمس العذر للسلطات التقليدية كالحكومات والسلطات الدينية. تعطي هذه الأعمال للشباب جرعة من الواقعية المفيدة بدلاً من النزعة الثورية الجامحة بل وتوضح في أكثر من موضع سوء التسرع والجموح الثوري لدى الشباب وتجعل صاحبه ممقوتاً. التاجر الفاسد والجشع ظهر لاحقاً أنه  في موقف يمكن تفهمه، رجل الدين المتعصب أيضاً مات تحت التعذيب دون ان يبوح بأسراره وكانت له مبرراته، حتى جلاوزة الأمن كانت حكمتهم الأخيرة مما تم تذكره من قبل الثائرة التي أصبحت لاحقاً جزءاً من السلطة.

كان لنظرة الأطفال للعالم بصدقها وتساؤلاتها واعتراضاتها جانب كبير من العمل وكذلك التساؤلات المنطقية للعامة عن جدوى الحرب بالنسبة لهم. الكثير من المستقبل يعتمد على فكرة أطفال اليوم وما يتشربونه. حتى الحكم على العدو في لحظة الانتصار المستقبلية قد تكون له أهمية في رسم الطفل للمستقبل. هكذا جعلنا هجوم العمالقة نقف مرات لا تحصى لنقتبس الفلسفة والحكمة من تلك اللحظات ونحن نرى الأطفال. الأطفال لم يكونوا مثاليين أو بالغي الحكمة بالضرورة لكنهم فقط يحملون تساؤلات بسيطة وبديهية. كثير من الناس يبدون في المسلسل وكأنهم فاقدون لذلك الجانب الفكري مثلما هم الناس في الواقع، لكن لحظات فكرية متقدة تصحو لديهم أحياناً لتصعق بعضهم بالألم والحقيقة.

أخطر ما طرح في هجوم العمالقة والذي قد لا تجرؤ الأعمال الغربية على طرحه بهذه الصيغة هو قضية العنصرية والصراع بين الأعراق. طبيعة الطرح التي لن يجرؤ عليها الغربيون تتمثل بعدم توجيه المشاهد نحو الخير والشر بشكل وعظي ساذج. بل ترك المشاهد ليقرر ما يشاء فقد يميل الى جواز إبادة قوم أو قد يميل الى الدعوة للسلام. الأعراق لا تبدو قائمة على الألوان او اللغات، فقط هناك تقسيم معين موجود دون أن نعرف له سبباً فإحدى الجماعتين هي قومية تقليدية رغم كونها متعددة الاثنيات أما الأخرى فهي أيضاً قومية متعددة الاثنيات لكنهم وبشكل ما أبناء لشخصية قديمة ذات قدرة خارقة. الخطير بمعايير الغرب الحالية أيضاً هو أن تلك التقسيمات لها أساس بيولوجي واضح، فإحدى العشائر على سبيل المثال منذورة لحماية الملك فيميل افرادها نفسياً بشكل تلقائي لحماية الذين هم من نسل ملكي، وهكذا الحال مع جماعة تمتلك الخاصية للتحول إلى عمالقة. هناك أساس بيولوجي إذاً لكل هذا ووفقاً لذلك يمكن أن تحدث كوارث فالموضوع ليس فقط لون للبشرة أو نوع للشعر. كل هذا والصورة ليست واضحة وعلى المشاهد الحكم، هل يمكن الثقة بقوم يمتلكون قوة خارقة يمكن أن تدمر الآخرين؟ هل يبرر ذلك عزلهم؟ هل يبرر ذلك العقوبات على الأجيال الجديدة؟

ليست هناك كارما، فالحوادث البشعة تنتهي دون عدالة. الانتقام لا يجلب العدالة لأحد ولا يحقق سوى المزيد من الدمار والألم، والحل ينتهي بأمر آخر مرفوض بعقلية الصوابية السياسية السائدة حالياً في العالم: الإبادة الجماعية الرحيمة، أن يباد قومٌ لتنجو الأرض من شرورهم ولينجو من اضطهاد الآخرين لهم فلا ينجبوا أحداً بعد ذلك. النظرة لتكاثر الشعوب وأبعادها حاضرة في المسلسل كذلك.

بعض القضايا قد يكون من الممكن أن تؤخذ كمجاز للتعبير عن أمور نعيشها فعلياً، لدينا الإعلام والتعليم اليوم، وفي المسلسل يظهر أن الملك امتلك قدرة خارقة على محو ذاكرة شعبه. الأمر الذي نجده منطقياً أيضاً إلى حدٍ ما، فمن الأفضل لشعب قد يتعرض للإبادة ألا يعلم بوجود بشر آخرين على الأرض سواه ومن الأفضل له أن يعيش داخل أسوار من الخوف فالعالم في الحقيقة أبشع من تلك الأسوار. وأن تعيش بأسوار بمحض ارادتك وبمحيطك الخاص من المخاوف من أمر يبدو جزءاً من الطبيعة خير من العيش بجدران فرضها الآخرون وأنت ترى سائر البشر يمشون بحرية فيما تدفع أنت ضريبة الأجداد. لكن كم من شعوب اليوم تدفع ضريبة الأجداد فعلاً؟ كم من الأسوار هناك اليوم؟ اليست الولادة في عالم فقير دون عتبة دفع تذكرة السفر أو في بلد محاصر بجواز سفره المرفوض أو بكلاهما، اليس ذلك سوراً؟ ألا يدفع هؤلاء ضريبة الأجداد الذين لم يعلموا ماذا فعلوا؟ قد يحذف المشاهد العمالقة من المشهد ليرى عالمه بوضوح، العالم الذي لن يتغير ولن تزول أسواره ولن تتقد فيه شمعة الأمل أبداً. لكن حتى مع العمالقة الخارقين كان الأمل ضعيفاً.

العمالقة غير الواعين الذين يأكلون بني جنسهم هم أيضاً يمكن أخذهم كمجاز للكثير مما يحدث في هذا العالم. هل يمكن أن يتحول شخصٌ من قومك إلى عملاق يأكل الناس؟ شخصياً أرى الكثير من الأمثلة الحقيقية على ذلك المجاز. لكن لماذا أصبح عملاقاً من الأساس؟ لأمر ليس له يدٌ فيه ولم يستطع أن يختره.

من الصحي للشباب أن تنتشر أعمالٌ كهذه فهي رغم كل ما فيها من الظلام لكنها تحمل خيوطاً من الحكمة وما لم تتخلل تلك الخيوط عقول اولي الألباب من المشاهدين فهم على الأقل سيحصلون على لقاح ضد النزعات الثورية المدمرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *