التصنيفات
عربي فلسفة

كلا يا صديقي لا يُمكن أن تكتسب الرواقية أو أي فلسفة أخرى

بفكرنا النقدي نحن نقف حراساً أشداء أمام من يقول بالجدوى الكبيرة للتنمية الذاتية والوعظ الديني وغير الديني والعلاج النفسي بأنواعه الكثيرة حتى ولو كان ذلك يُعنى بتغيير خصالٍ محدودة أو معالجة أزمات معينة. والسبب في ذلك هو ضعف الدليل العلمي أو وجود أدلة علمية واضحة على عدم حدوث تأثير لهذه الطرائق المختلفة. لكن يتسلل من خلفنا منهج ضخم لا يدعي تغيير خصال محددة فحسب، بل يدعي تغيير شخصية الفرد بأكملها أو هكذا يدعي قراء الفلسفة الرواقية لنكون أكثر دقة فآباء هذه الفلسفة كانت لديهم فكرة معاكسة كلياً. يؤمن جيلٌ من الشباب اليوم بالتبشير بالرواقية والاستماع لحكم فلاسفتها ومن ثم الاعتقاد بأن الشخص سيكتسب كل ذلك وسيدمجه ضمن سلوكه حال قراءته. وفي ذلك تجني على الآباء الأوائل للفلسفة الرواقية قبل أن يكون تجنياً على كل معرفتنا بكل مناهج علم الأعصاب وعلم النفس وسبل التأثير على السلوك عبر التاريخ، فكأننا لم نعرف شيئاً ولم يكن لدينا أي معرفة مسبقة لمجرد أننا أمسكنا بأيدينا كتاباً فلسفياً يعود لبضعة قرون قبل الميلاد.

الرواقية هي مذهب فلسفي متفرع من فلسفة سقراط، وترجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد في اليونان. يتسم الرواقي بتقبل الحياة كما هي ويتسم بتنظيم ردود أفعاله على ما يحيط به، وأيضاً يمتاز بعدم الخضوع للآلام أو للملذات والتوقف عن جعل اللذة أو اجتناب الألم غايات في الحياة. كما يتسم الرواقي بالسيطرة التامة على مشاعره وعلى ما يُفكر به وبذلك ينال السعادة التامة ويكون أسعد شخص على الأرض، كما يكون في الوقت نفسه انساناً فاضلاً. لعل وصفنا هنا ليس دقيقاً أو واضحاً بشدة فلا يُمكن اختصار مذهب فلسفي بعدة جمل لكن بالإضافة لذلك هناك الكثير من التعاليم الأخرى والتعاليم الفرعية التي تتضمنها الرواقية.

لا أخفي على القارئ أن أول تعرفي على الرواقية كان عبر متابعة ما ينشره صديقي والعضو السابق في العلوم الحقيقية (سيف البصري)، ثم وفي مثل هذا الوقت من السنة الماضية دعاني سيف متفضلاً إلى أرضه وغرفة فلسفته الرواقية حيث قام بتنظيم بودكاست أثرت فيه عليه بعض المؤاخذات التي لدي حول طريقة استخدام الفلسفة لمساعدة الناس نفسياً وجعلهم أفضل، وكان في البودكاست الكثير من النقاط التي طرحت، لكن كان هناك مشكلة واحدة، حيث لم أكن مطلعاً على الرواقية بالشكل الكافي. الآن وبعد سنة تقريباً من ذلك اللقاء، كنت قد سمعت كتباً صوتية لابكتيتوس ولماركوس اوريليوس وللوشيوس سينيكا مرتين على الأقل لكل من هذه الكتب، فضلاً عن إعادة الاستماع لملخصات لكل من ماركوس اوريليوس وسينيكا، وأستمع أيضاً لكورس تعليمي صغير للأستاذ ويليام ايرفينك حول استخدام الرواقية في حياتنا. وهنا قد يتسائل القارئ، لماذا فعلت كل هذا؟ السبب أنها تعجبني، وقد أواظب الاستماع عليها بين حين وآخر، لكن وبخلاف جيل واسع من الشباب في العالم، فأنا أعلم جيداً أن تأثير هذا الاستماع علي هو تأثير شبه منعدم!

حتى نضع القارئ أمام المشهد بدقة، علينا أن نوضح أوجه اعتراضنا على التنمية الذاتية والوعظ والعلاج النفسي. فالتنمية الذاتية أولاً هي تعاليم تمزج بين الحكم والمعلومات والعبارات التشجيعية الفارغة لتعطي جرعة من الثقة لجمهورها لكن دون أن يكون هناك أي تأثير ملموس عليهم على المدى القريب أو البعيد. وفي التنمية الذاتية إشكالية أخرى، فهي تتوسط مجالات كثيرة، فتارة تكون حول قبول الشخص بين الناس، وتارة تكون حول النجاح العملي، وتارة أخرى حول النجاح في العلاقات وهكذا. مقدموها ليسوا علماءاً أو مختصين بأي مجال رغم أنهم يضعون أقدامهم في 5 مجالات على الأقل، هدفهم الأساسي هو الخروج بجمهور متحمس في نهاية الجلسة بغض النظر عن صحة ما يقولون أو جدواه.

أما الوعظ ومجمله ديني الطابع، فهو لا يركز بالضرورة على حماسة وسعادة الفرد بعد الانتهاء. وليس هناك أهمية لصحة المعلومة المقدمة فيه فهو على الأغلب أوامر ونواهي. وفي حالة الوعظ الديني، يكون مصدر هذه المعلومة مقدساً وبالتالي فهو غير قابل للنقاش وما يتبقى على المستمع هو الائتمار أو الانتهاء بما تنص عليه الموعظة فحسب. في أحيان كثيرة تكون المواعظ داعية لقضايا يجب بالفعل الالتزام بها وقد يطبقها أو يحاول أن يطبقها معظم من يستمعون لها.

أما العلاج النفسي – ونتكلم هنا عن ممارسات العلاج النفسي وليس عن الأدوية والطب النفسي – فهو طرق وممارسات لمساعدة الناس على تجاوز بعض مما يمرون به من حالات يُفترض أنها لا تقوم على مسببات فسلجية. ويستند على أسس يفترض أن تكون علمية ثم يخضع للتقييم بوسائل علمية. مع ذلك فباستثناء العلاج الادراكي المعرفي تعد معظم طرق العلاج النفسي غير ناجحة بل أن فيها ما هو ضار.

لماذا نذكر هذه الطرائق؟ السبب في الواقع هو أن هناك من يعتقد أن الرواقية تؤدي هذه الأدوار، فمن جهة يراد لها أن تقوم بدور علاجي أو أكبر من ذلك، أن تقوم بتغيير شامل للفرد. ومن جهة أخرى فهي تشبه طابع الوعظ، حيث تقدم نصائح قصيرة متكررة ويشترك الفلاسفة الرواقيون في كثير من تلك الحكم (المواعظ)، أما التنمية الذاتية، فلعل كثيراً من سامعي الرواقية لن ينالوا منها سوى شعوراً وقتياً لا يختلف عما هو عليه الحال في التنمية الذاتية ولعل الأمر يختلف قليلاً مع التنمية الذاتية لأمر سنتطرق له.

ربما من الجدير بالذكر أن نتكلم عن المفارقة الأولى مع الرواقية، كانت المفاجأة الكبرى في أول يوم استمع فيه لماركوس أوريليوس أنني عرفت بأنه كتب كتابه لنفسه. لقد تم اكتشاف الكتاب الذي كتبه الامبراطور ماركوس اوريليوس ولم ينشره أو ينسخه أو يعلم حكمه لتلاميذه.  يرى أستاذ التاريخ مايكل سغرو (Michael Sugrue) أن ماركوس أوريليوس كان يؤمن بأن هذه التعليمات ليست للنشر والتداول فلا يُمكن أن يستفيد منها أحد ولن تنفع أحداً. مع كل ايمانه بالفضيلة لم يكن نشر تعاليم ماركوس اوريليوس جزءاً من الفضائل بالنسبة له. أما ابكتيتوس، فلم يكتب شيئاً من تعاليمه وكتبها تلميذه لاحقاً. وفيما كتب آخرون حكمهم الرواقية، ودرسوها للتلاميذ فإن ذلك ربما يرجع إلى شيوع تدريس الفلسفة إلى جانب معارف أخرى ووجود مهنة المعلم لا لإيمان هؤلاء بإمكانية صناعة الرواقيين. لا أريد أن أضع هذا ضمن الحجج، فهذا شأن خاص بهؤلاء الفلاسفة وما يعتقدونه ولدينا حجج حديثة كثيرة ضد الأمر.

ربما علينا أن نعيد السؤال على علوم اليوم، هل سنصبح رواقيين إذا ما قرأنا حول الرواقية؟

القضية من الاساس مسلوبة من علم النفس والعلاج النفسي، ربما علينا ان نطرح السؤال على هذين المجالين الفقيرين، هل يمكن ان نكتسب عادات وطبائع بمجردان نقرأها وتعجبنا؟ وان نعيد السؤال على علم النفس كم استطعنا فعليا ان نحرز في محاولات غرس العادات والطبائع بمختلف الطرق حتى نعتقد ان الاستماع لنصائح وتعاليم شخص ما لها سحر خاص. سيكون هناك الكثير من الامتعاض من جانب علم النفس، فنحن نهاجم كثيرا من اساليب العلاج النفسي لعدم ثبوت فعاليتها ونحن نهاجم اساليب الوعظ الديني لعدم فعاليتها ونعلم جيدا قلة استفادتنا بشكل عام مما نقرأ لولا ان نمر بتجارب وتطبيقات، فما السحر الذي يدعونا للاعتقاد باننا لن نتعلم اشياءا محدودة فحسب بل سنتغير قلبا وقالبا ونصبح رواقيين فقط لاننا قرأنا كتاب فلسفة قديم.

هل الرواقية جيدة للصحة النفسية؟

رغم جمالها، فليست جميع الحكم الرواقية صحيحة. يُمكن قول جملة كهذه بثقة كبيرة، فلا يوجد أي قانون منطقي يجعلنا نأخذ حزمة من الحكم بشكل مسلم به. وكلمة صحيحة قد تجعل القارئ يظن أننا نقصد أنها غير صحيحة أخلاقياً، لكننا نتكلم من جانب علمي، حول صواب نصيحة معينة من منظور الصحة النفسية. لا يعني هذا أنني قادر على محاكمة جميع حكم الفلاسفة الرواقيين الآن أو أنني أرغب بجر هذا المقال الشامل ليكون نقاشاً حول جزئيات حكم معينة، لكن فقط لا يُمكن التسليم بصحتها. أيضاً ولو افترضنا نسبية صواب جميع الحكم الرواقية أو معظمها، فهل يُمكن أن ننظر لها ككل؟ أي، أننا نتخيل أن الشخص الذي احتوى جميع تلك الحكم هو شخص سعيد وسليم نفسياً، لكن هل يُمكن أن نفكر في الطريق الذي يُمكن أن يقطعه شخصٌ ما لكي يستوعب جميع تلك الحكم؟ السؤال هنا هو سؤال علمي بحت، وقد يُمكن الإجابة عليه لو وجد هذا الشخص.

تعسر التطبيق بل واستحالته

قبل فترة أصدر ملك هولندا ويليام الكساندر عفواً عن جودت يلماز الذي أودع في السجن عام 1984 وذلك بعد قتله لستة أشخاص عام 1983. كان يلماز – التركي الأصل – قد حصل على الجنسية الهولندية حديثاً في ذلك الحين، وبينما كان يتردد على إحدى الحانات قال له أحد الهولنديين في الحانة “أنك وإن أخذت الجنسية لكنك ستبقى تركياً [شتيمة] ” مهيناً إياه أمام مجموعة من الناس، فضحك الحضور وخرج جودت من الحانة ليعود بعد 12 دقيقة وهو يحمل سلاحاً فقتل الشخص الذي أهانه والخمسة الذين ضحكوا!

قصة جودت يلماز هي قصة بسيطة جداً مما يُمكن أن نقرأه في الكتاب الذي كتبه ديفيد باس القاتل بجوارك. لكن الأهم من القصص التي يذكرها ديفيد باس، هو النظرية التي يقدمها في تفسيره للجريمة، لاسيما حول دوافع الجريمة الكامنة في كل منا. تلك المُفعلات التي يُمكن أن تعمل في ظروف معينة والتي قد تقوم بكبح أي جزء آخر للتفكير. ألم يكن شيء بسيطٌ من المنطق يكفي يلماز لكي يتناسى تلك الحادثة التي جعلته يقتل 6 أشخاص ويقضي 37 عاماً في السجن؟ لا يحتاج يلماز أو أيٌ منا إلى الرواقية لكي يحدد ردود فعله المتطرفة على انتهاكات وتجاوزات الآخرين، لكن الأمر ببساطة لا يعمل في كثيرٍ من الأحيان! لا يُمكن أبداً أن نتخيل أن موعظة رواقية عابرة ستكون كافية لكبح المليارات من لحظات الغضب التي تنفجر في كل يوم في هذا العالم.

يجب أن نفهم جيداً أن امتلاك القدرة على السمع والفهم (الجزئي) لا يعنيان بأي شكل أننا سنتجاوز تلك الآليات النفسية الضاربة في العمق فينا. لا يجب أن نحمل السمع والنطق وقدرة التفسير اللغوية أكثر مما تستطيع. أي أن الموعظة التي نسمعها أو نقرأها لن تكون قادرة على كبح سلوكياتنا التطورية، نعم قد تتمكن من الرد على بريد الكتروني طويل بالمزيد من الحكمة وألا تنزعج منه وأنت تتذكر موعظة اوريليوس، لكن من الصعب جداً تخيل أننا لن نشعر بالإهانة وأن نضع الأشخاص بموضعهم الصحيح ونقول “آه لقد وجدت أحدهم” ونحن نتكلم عن الأشرار بينما نتعرض للإهانة في العلن وأمام جمع من الناس. قد ينجح الأمر في عراك مع زوجتك، لكنه لن ينجح في موقف يستفز غرائز القتل البدائية لديك. من الصعب تخيل أن الأمر سينجح فقط لأنك قرأته وفهمته، احذر الخلط بين البرمجة والفهم! الانسان ليس كائناً قابلاً للبرمجة فقط لأنه يمتلك لغة، أصحاب البرمجة اللغوية العصبية ربما يؤمنون بذلك وهم علمٌ زائف.

كثير من الحكم والمواعظ الموجودة في الرواقية وغيرها تكون حاضرة في كل ذهن ويسمعها الجميع منذ الطفولة لكنهم ببساطة يتصرفون خلافاً لها لأنها لا تبرمجهم. في معظم الأحيان، يتصرف البشر ويقومون بأفعالهم ثم يصبغون تلك الأفعال بالحكم والمواعظ التي حفظوها، يختارون حكم السلم ومواعظ السلم عندما يكونون بحاجة للسلم، وقصائد الفخر وأقوال الحرب عندما يكونون منطلقين نحو الحرب. لا توجد أي تجربة بشرية في إعادة برمجة مجموعة معينة أو فرد واحد بمجموعة من الأقوال.

ولكن ماذا لو كان من الممكن برمجتنا؟ ألن تكون الرواقية مثالية عندئذ؟ نعم ستكون، لكن لو فهمناها!

معضلة الفهم

الافتراض الثاني الذي نفترضه لأننا نمتلك اللغة هو أن الجميع سيفهمون، وفي الواقع، يُمكن أن يفهم عدة أشخاص أموراً متباينة من نص بسيط، فما بالنا بنص فلسفي معقد؟ يُمكنني أن اقتطع مجموعة من أقوال ماركوس اوريليوس او ابكتيتوس حول عدم الخوف من الموت بل والسعي نحوه في سبيل الفضيلة والمبادئ ويمكن أن أقدم هذا النص لأي شخص ليفهم منه أنه رسالة من مقاتل راديكالي. ولو أعطيت الأقوال هذه ذاتها للمقاتل الراديكالي لفهم منها ما يحتاجه ليضحي بحياته بسهولة، لكن شخصاً مرفهاً قد يفهم منها أن عليه أن يتقبل فكرة الموت بعض الشيء.

كلما زادت الأقوال تعقيداً كلما زادت فرضيات الناس المختلفة حولها ومفاهيمهم المختلفة حولها. الفلاسفة لم يقدموا تعاليمهم لتصبح مثل النصوص الدينية وتحتاج إلى كهنة ومفسرين لكيلا يساء فهمها. ولو افترضنا إمكانية برمجة البشر بالحكم والأقوال، فستكون البرمجة مهمة عسيرة لأقوال معقدة وتحتمل معاني عدة. أيضاً كلما لامست الأقوال واقع الناس وزادت عموميتها صار من الممكن أن تُفسر بشكل مغاير من الأشخاص المختلفين، هذا ما يفعله كتاب الأبراج، فهم يحرصون على شمول عدة عناصر يُمكن أن تنطبق على غالبية الناس، ثم يتركون للناس مهمة تطبيقها على حياتهم وافتراض صحتها. لن نقارن فلسفة جميلة كالفلسفة الرواقية بالأبراج، لكن علينا أن نقر بوجود أزمة للفهم أمام اقوال الفلسفة الرواقية.

معضلة الفهم لا تقف أمام صعوبة النص فقط، بل هي تحدي لذكاء وادراك المتلقي، هل هو مؤهل لفهم هذا النوع من الكلام؟ كم نسبة القادرين على فهمه بالحد الأدنى؟ قد تكون نسبة منخفضة.

لكنني أفهم وأطبق والأمر يجري معي بشكل رائع

منذ البودكاست مع سيف البصري، طرح سيف سؤالاً بقي في ذهني ولم أجب عليه بطريقة جيدة لأنني لم أفهم الأمر إلا بعد حين. سألني “لماذا يتجه الشباب بشكل كبير إلى الرواقية في هذه السنوات؟” وكان يحتج بذلك على صوابها ونفعها. لكن الأمر في الحقيقة مختلف قليلاً. ببساطة، إن الرواقيون ينشئون في هذا العالم نتيجة لظروف معينة دون أن يقرؤوا نصوصاً لذلك. نعم، فالرواقية لمن يقرأها لدى الفلاسفة يجدهم يتكلمون عنها كواقع حال وكأنهم يصفون شخصاً، لا كأنهم يريدون صناعة شخص أو تقويم شخص.

راودني السؤال الأول حول الرواقية وأنا استمع لها، أين هو الإصدار العربي من الرواقية؟ يقال أن لدى إخوان الصفا بعضاً من الأقوال التي تحسب على الرواقية، لكنهم ليسوا رواقيين. لم ينشأ نظيرٌ للفلسفة الرواقية بنظرتها للطبيعة والتفاعل مع الطبيعة سوى في شرق آسيا وفي اليونان وروما. ما السبب؟ هناك ظروف معينة يُمكن فهمها من النص الرواقي هي التي تخلق أشخاصاً من هؤلاء. وسنأتي لتلك الصفات.

بنظرة إلى الفلاسفة الرواقيين سنجدهم جميعاً من المرفهين نسبياً، حتى ابكتيتوس الذي بدأ حياته كعبد، كان مالكه قد سمح له بالذهاب لحضور دروس الفلسفة ثم تحرر وهو في الثامنة عشرة من العمر. أي عبدٍ هذا الذي يحضر دروساً للفلسفة؟ لن تحتاج أن تُفكر بمن هم أسوء حالاً (أحد أركان الرواقية) كسلوان لك عندما تعاني إذا ما كنت أصلاً في اسوء الأحوال، يفيد هذا النمط من التفكير في صد بعض مسببات الكدر في الحياة المرفهة لكنه لن يعمل في زنزانة مظلمة أو في بلد شديد الحرارة وخالٍ من الغذاء والماء، لهذا السبب ربما لا يُمكن أن نجد الفلاسفة الرواقيين في صحاري العرب. وقد يقول قائلٌ هنا أن في الإسلام أو المسيحية مرادفات كثيرة للحكم الرواقية، ونقول رداً على ذلك أن في الإسلام أو المسيحية حكم وأقوال متنوعة جداً ويُمكن ان تلتقي هذه مع فلسفات كثيرة لكن لا يُمكن وصف الإسلام بأنه رواقي ولا يُمكن قول ذلك عن المسيحية.

الرواقي لا يُمكن أن يكون جائعاً أو محروماً لكي يبدأ بوعظ نفسه عن عدم الافتتان بالنعم التي تحيط به، بل لابد أن يكون مرفهاً، مثلما يعيش الشباب في عالم اليوم، حيث يعيشون برفاهية تفوق ما كان للملوك في الماضي.

النزاعات بالفعل وبالكلام لا يُمكن أن تكون جزءاً من عالم الرواقي ولا يمكن أن يحتاجها يومياً لنيل ما سيقتات به، كما هي الحياة في المدن الحديثة اليوم، عالم الرواقي عالمٌ هادئ ويمكن أن تمضي فيه سنيناً وأنت في هدوء فيُمكنك عندها أن تعظ نفسك حول عدم الانفعال، بالأحرى أنت تصف نفسك فقط وما تعلمته لكي تتحسن قليلاً في هذا الصدد. لكن الذي يعيش في عالم صاخب عنيف يحتاج فيه للعنف والصراخ لينال الخبز فلن يكون في رفاهية تجعله يعظ نفسه حول ردود الأفعال. ربما يستطيع هذا الشخص المعذب أن يتعلم أن يصرخ ويضرب دون أن ينفعل! هل هذا ممكن أصلاً؟

الرواقي يعيش في دولة قانون، وفي مدينة لا يُمكن أن يُمارس فيها العنف بشكل عشوائي دون حساب. لهذا يعظ ابكتيتوس واوريليوس نفسيهما والناس بعدم الغضب لخيانة الزوجة مثلاً. هل يُمكن أن نعتبر التسليم بخيانة الشريك وعدم الغضب له أمراً طبيعياً؟ لا يُمكن بطبيعتنا البشرية، لكنه مطلوب في مدينة القانون التي قد تحاسبه لو قتلها دون دليل، أو إذا كانت زوجته تمتلك ما يمنعه من ايذاءها من الأساس في مدينة القانون تلك، فلن يبقى أمامه خياراً سوى أن لا يغضب (هذا إن استطاع). وأيضاً، هكذا هو الحال في مدننا الحديثة اليوم، إنها تكبح جماح البشر عموماً والرجال خصوصاً من كل اتجاه وتضيق الخناق على سلوكياتهم الطبيعية التي كانت مسموحة لعشرات الآلاف من السنين، أما الآن فيجدون أنفسهم اصبحوا رواقيين تلقائياً ودون أن يعرفوا من هو زينون الرواقي أو سينيكا، لقد تعلموا أن يكبحوا جماح أنفسهم ليعيشوا بسلام مع ذلك العالم.

في المدن الحديثة وبشكل أكبر من المدن اليونانية التي كان فيها شيء يسير من التعليم، هناك تعليم ووسائل اعلام مختلفة تجعل البشر يتقدمون تلقائياً في القدرة على فهم الأمور وتحسن مهاراتهم الادراكية. معدل الذكاء للأطفال اليوم أعلى منه للجيل الذي قبله وكذلك للذي قبله وهكذا، وهذا يُمكن الشباب اليوم من التعامل مع الأفكار بشكل مختلف وتجعلهم يصلون لحكم الرواقية تلقائياً دون أن يعرفوا اسم الفلسفة الجامعة لها.

عندما يتغير الجو بين الصيف والشتاء يغير الشخص ملابسه، وعندما يغير الشخص مكان عمله من مكان للعمل البدني إلى عمل مكتبي ستتغير نبرة صوته وسينعم جلده وستذهب آلام ظهره من حمل الأشياء. وعندما ينتقل البشر من بيئة إلى أخرى، فسيحتاجون فلسفة أخرى، الفلسفة الشائعة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيئة ومن ثم بالطبقة الاجتماعية وطبيعة الحياة اليومية ومعظم ذلك مرتبط بالمناخ وموارد الأرض. في الأراضي الغنية تجد فلسفات معينة وفي القفار تجد فلسفات أخرى. وهكذا الحال مع الرواقية التي ترتبط بسلسلة معينة من الوفرة في الموارد وسلطة القانون وبعض العوامل الأخرى.

يُمكنني أن أقول بثقة أن هناك مدينة رواقية وأخرى من فلسفة أخرى، وأن أرسم خريطة لذلك لو درست الأمر عالمياً. لكن هناك بعض العوامل الشخصية أيضاً وبعضها يعتمد على مستويات الذكاء وتحسس المشاعر لذا فلن يكون هناك مدينة تطغى عليها فلسفة واحدة، وسيكون الابيقوريون كثيرون في أنحاء كثيرة من العالم بكل الأحوال.

لكنني استمتع وأستفيد

معظم البشر يستمعون لما يوافقهم، أنا لم استفد أو أتعلم من الرواقية شيئاً، وما تعلمته ولم أكن أعلمه لم أستطع أن أدمجه في سلوكي، ولا أعرف طريقة لذلك، أنا فقط أتحلى بالقدرة على مراقبة نفسي بعدما أرتكب فعلاً لم أرد أن ارتكبه لأرى أنه صادر من الغرائز. أنا استمتعت بالرواقية لأنها توافقني، لأنني وصلت للكثير مما فيها تلقائياً وكنت قد كتبت وتكلمت ببعض منه قبل أن أبدأ بالاطلاع عليها حتى، هل هذا يعني أنني عبقري وفيلسوف لامع؟ كلا ولم يكن الرواقيون الأوائل كذلك، ربما كان لديهم المزيد من الوقت لتأطير أفكارهم وكتابتها فحسب، أو ربما مروا ببعض التجارب بشكل أكثر نقاوة فصاروا أقرب للنموذج المثالي الموصوف للشخص الرواقي.

علينا أن نعرف ونعترف أن معظم البشر يحبون الاستماع والقراءة لما يتفق معهم أو لما سيجرهم نحو نفس الاتجاه الذي يسعون فيه حتى وإن لم يكونوا قد وصلوا لجميع الحكم الواردة فيه بأنفسهم. بالمقابل، كثيرٌ من الأشخاص في العالم سيجدون الرواقية صنفاً من التخنث والضعف ليس إلا. لن يفهموها ولن يطبقوها ولن يستسيغوا قراءة صفحة واحدة من كتبها.

كل شخصٍ في العالم لديه فلسفة

الفلسفة أشبه بنظام التشغيل، لكن الفرق أن نظام التشغيل لدى البشر ليس شيئاً يصنعه بشر آخرون، هم فقط يحاولون فهمه وتأطيره ووصفه بالكلمات. أبسط الأشخاص فلسفة يُمكن نعتهم بالأبيقوريين، ومرة أخرى، أبيقور لم يخلق الفلسفة الأبيقورية بل أطرها فحسب. ما يحاول المبشرون بالفلسفة فعله هو أنهم يحاولون نشر هذه الكلمات معتقدين أنهم سيساعدون المزيد من الأشخاص، لكن في الحقيقة عليهم ان يعطوا لهؤلاء الأشخاص مسيرة حياتهم بأكملها ليصبحوا مثلهم، كما لو كنت ذكياً وتتصور أن الأشخاص سيصبحون أذكياء لو كلمتهم عن ذكاءك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *