“إن شرحي للوعي بعيد جداً عن الكمال. يمكن القول أنها البداية فقط. لأنها تكسر لعنة تلك الحلقة من الأفكار التي جعلت من عملية شرح الوعي أمراً مستحيلاً. لم استبدل الاستعارات النظرية للمسرح الكارتيزي ببدائل ذات طبيعة أخرى أدبية أو علمية. كل ما فعلته في الحقيقة هو استبدال عائلة من الاستعارات والصور بأخرى. استبدلت المسرح، الشاهد، القاصد المركزي، الخيال بالبرنامج، الحواسيب الافتراضية، المسودات المتعددة، الفوضى. إنها حرب للاستعارات فحسب، كما قد يقول قائل، غير ان الاستعارات ليست مجرد استعارات بل هي أدوات للفكر. لا يستطيع أحد أن يفكر بالوعي دونها، لذا فمن المهم أن نتجهز بأفضل عدة متوفرة منها. أنظر لما لدينا الآن. هل كنت ستستطيع تخيل ذلك دونها؟”
دانييل دينيت
إن ما ذكره دانييل دينيت أعلاه يشكل موقفاً هاماً في علم النفس ويغطي ذلك العلاج النفسي أيضاً. إحدى أبرز إشكاليات علم النفس حالياً أنه من بين العديد من العلوم التي كان لها جناح غير علمي، أو علمي زائف، فإن هذا الجناح لا يزال حياً فيه مثل التحليل النفسي، أو ما هو حديث مثل قانون الجذب، والطاقات، والادعاءات بإزالة السمية، والادعاءات بالربط مع ميكانيكا الكم وغير ذلك. قد يقول قائل من القراء والهواة أو من الأكاديميين ألا ضير من القراءة ورؤية وجهات النظر الأخرى لكن هناك مخاطر لذلك. هناك مخاطر من الغرق في عالم من الاستعارات التي لن تأخذك بعيداً.
في كتابه، شرح الوعي، قدم دانييل دينيت نطاقاً من الاستعارات الملائمة لما وصل إليه العلم والقابلة لأخذ التفكير لمفاهيم جديدة. ومثل ذلك قدم آخرون من العلماء. بالمقابل، فإن هناك نطاقاً من المصطلحات والأفكار والاستعارات التي جاء بها التحليل النفسي والتي قد تبدو مغرية جداً لرؤية النفس البشرية من خلالها وهي تنطبق أيضاً على ما نرى فيه العالم من حولنا. شرح فرويد الأنا، والأنا العليا، والهو كأقسام مختلفة للنفس كما قدم الدفاعات النفسية والكبت ومفاهيم معينة حول العقد وغير ذلك. سحرت تلك المصطلحات العالم لكنها لم تأخذ علم النفس لأي مكان لأن فرويد لم يكن عالماً ولم يتعب نفسه بإجراء تجربة علمية واحدة. وسرعان ما ظهرت تيارات جديدة كانت قابلة للازدهار والنمو لا للبقاء في حيز استعاراتها الأدبية الجامدة منذ فجر تأسيسها.
الاستعارات ليست وسائل للشرح فقط، انها قوالب لتفكيرنا. فقد يقول معالج نفسي بأنه مهتم بعميله اكثر وبقضايا عمليه أكثر من اهتمامه بالتفكير بتغيير المجال. لكن عالم النفس لا يمتلك عذراً مشابهاً. الاستعارات تضع تفكيرنا ضمن حتمية. لا يمكن الهروب من الاستعارات بسهولة. الكثير من الافكار غير العلمية في علم النفس، مع ذلك، هي ليست وسائل للشرح فقط. فنطاق الافكار البوذية في علم النفس، أو ارث العلاج النفسي ومصطلحاته ومفاهيمه، وأفكار العلم الزائف والمفاهيم الدينية كلها تغور بشكل عميق في علم النفس وفي العلاج النفسي وتتجاوز كونها استعارات للشرح فقط بل أفكاراً ومعلومات ومفاهيم.
بنفس الطريقة يجب الحذر حين نقرأ في أي مجال غير علمي في العلاج النفسي أو علم النفس. بعض المصطلحات توحي بأن هناك علم نفس متطابق مع صورة الحقيقة التي يراها دين معين. البوذية مثلاً لديها اطار كامل لفهم الواقع، وقد يشكل استخدام التأمل واعتماده من قبل المعالجين النفسيين كوسيلة لتبني صورة تلك الحقيقة. الأديان الأخرى ايضاً لديها رؤى معينة للحقيقة. لكن كم من الممكن أن تصيب تلك الرؤى واستعاراتها؟
نحن اليوم على حافة فجر جديد للاكتشافات في علم النفس عبر قنوات عديدة منها الجينات التي تطورت المعرفة بها أكثر من أي وقت مضى. وأيضاً هناك مجال البيانات الضخمة والتي تحمل الكثير من الحقائق التي يمكن استكشافها ودمجها بالمعرفة المتوفرة لو أتيح للعلم دراسة البيانات التي تمتلكها الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث والوسائل الالكترونية الأخرى. المعرفة بالدماغ البشري أيضاً وصلت الى مراحل متقدمة. كما أن البحث العلمي في العلاج النفسي قد جمع قدراً معتبراً البيانات منذ بدء كارل روجرز وآخرين بتحويل الجلسات الى بيانات. أين ستقودنا كل هذه؟ وما هي عدة الأدوات التي نحملها لكي نستوعب العالم الجديد لعلم النفس؟
حتى الآن يحتاج أي شخص ينخرط بعلم النفس الى حقيبة تتضمن مزيجاً من الأدوات التحليلية الإحصائية فضلاً عن المعرفة بالتخصص ذاته. اليوم قد يحتاج عالم النفس الجديد الى حقيبة أكبر من الأدوات الإحصائية التي قد تصل حتى الى أدوات التعلم الآلي. كما يحتاج عالم النفس الى المعرفة بالبيولوجيا أكثر من أي وقت مضى فهي تحمل اليوم معلومات أكبر بكثير عما يجري بداخلنا من الوقت الذي كان البشر يعتقدون أن الدماغ منفصلٌ عن العقل. المعالج النفسي قد يحتاج أن يبقى على صلة بكل ذلك أيضاً، ليس بالضرورة أن يمتلك أدوات تنفيذ البحث لكن أن يفهم ما يجري. وربما يجب أن ينعكس ذلك على مناهج التعليم.
دحض الخرافة والعلم الزائف ليست مهمة للترف الفكري فحسب حين يأتي الأمر للعلاج النفسي ولعلم النفس. على كل نفساني ومعالج نفسي أن يعرف جيداً المنهج العلمي وأن ينفض عن تخصصه ومعلوماته ليس المعلومات الخاطئة فحسب بل أن يقاطع الاستعارات القادمة من المجالات غير العلمية في علم النفس. ما يقع على عاتق النفساني وبالمعالج النفسي بالمقارنة مع غيره من مختصي العلوم الأخرى يعد أكبر بكثير مما هو على عاتق أي مختص آخر. فمن جهة قد يتوسع دور المعالج النفسي أو الطبيب النفسي قريباً ليكون ما يشبه مجال موازي للطب وبالتالي يكون المختص مسؤولاً عن جانب من صحة الناس، بكل ما يحمله ذلك من جسامة للدور. ومن جهة أخرى فكما ذكرنا، هناك الكثير من الأدران على جسد هذا العلم والتي يجب تنقيتها.
مثلما يمتلك معظم البشر اليوم بعض الأساسيات عن الطب مثل معرفتهم بارتفاع درجة الحرارة، اخذ مسكنات الألم، أو المعرفة ببعض الأمراض والحالات القاتلة، فيجب أن يكون هناك نظير لذلك من المعرفة النفسية. ماذا لو عرف الجميع أن الكتابة عن مشاعرهم مفيدة؟ ماذا لو تحرر الجميع من الوصمة حول الطبيب النفسي والمعالج النفسي؟ ماذا لو عرف الجميع أن في الكلام شفاء مثلما أن في الكلام ألم وشقاء؟
