التصنيفات
الطاقة المستقبل

النهاية لاستثناء الطاقة والتكنلوجيا

التكنلوجيا تخنق ذاتها بحبال عدة أولها الطاقة

(English) نحن نعيش في استثناء. التفاؤل الذي يبثه التقدم التكنلوجي على وشك الانتهاء، نظراً لعوامل عديدة بعضها كان السبب في التقدم التكنلوجي وفي نفس الوقت في لف حبل المشنقة حول ذلك التقدم. شبح انتهاء الطاقة الاستثنائية التي نمتلكها الآن يلوح في الأفق. عالم ما بعد الوقود الاحفوري الذي سنسميه في هذا المقال الطاقة الاستثنائية ليس عالماً دون طاقة، لكنه عالم مزدحم بأولويات صنعتها التكنلوجيا. اعدادانا الغفيرة، الصناعات التي تدعم بقاءنا كالغذاء والدواء، صناعة الترفيه، اليات النقل، والضريبة الثقيلة للصناعات العسكرية، فضلاً عن العلاقة بين العلم والتكنلوجيا كل ذلك يلتف ليعقد ذلك الخيط حول رقبة التكنلوجيا ويضع خط النهاية ربما للاستثناء الذي نعيشه.

ساعدت التكنلوجيا على زيادة تعداد البشر. لكن زيادة تعداد البشر زادت من فاتورة كل تقنية جديدة تحتاج لأن تصنع وتستهلك وتستدام لعدد أكبر من البشر. ويستهلك هؤلاء الطاقة – من الوقود الاحفوري بشكل رئيسي – بقدر أكبر، كلما زاد عددهم. يتقدم الطب، فتزول آلامنا وتطول فترة عيشنا وتزداد اعدادنا ويزداد استهلاكنا وسعينا نحو اللحظة الحتمية لذروة لاستهلاك وعدم إمكانية التعويض للطاقة الاستثنائية وللمزيد من التقنيات والموارد.

الوقود الأحفوري هو استثناء. افتراض إمكانية الحصول على قدرة لنقل ملايين البشر عبر أطراف الكوكب بالطائرات وعلى اضاءة وتدفئة وتبريد آلاف المدن دون وقود احفوري قد يكون تصور غير منطقي على الأقل ليس بهذه الهيئة. الوقود الاحفوري اليوم هو الذي يحرك مصانع انتاج معدات توليد الطاقة البديلة. لكن فيما يتعلق بالتقنيات، فالمزيد من التقنيات والمزيد من البشر يحتاجون المزيد من الطاقة، والطاقة الاستثنائية التي لدينا اليوم محدودة الأجل والمقدار.

التكنلوجيا منذ الكتابة وحتى النانوتكنلوجي تساهم بتطوير العلم، دواستين لذات الدراجة، وكثيرون يراهنون على تلك الدراجة. لكن في الحقيقة، لا تؤدي جميع الاكتشافات لتقدم تقني ولا تؤدي جميع التقنيات لاكتشافات علمية، والتباطؤ صار واضحاً لتلك العجلة، حيث تبدو كثير من المجالات البحثية راكدة كلياً حيث يقل أثر الأبحاث والاختراعات الجديدة تدريجياً[1] فضلاً عن الازدياد في التعقيد وبالتالي الكلفة لما يتم تطويره حديثاً والى صلة الكلفة تلك بالطاقة في النهاية، فالكلفة بالدولار وهم، لكن الكلفة بالنفط هي الحقيقة. حل الجزء الأصغر المتبقي من المشكلة أعقد وأغلى ثمناً من حل الجزء الأكبر منها الذي تم سابقاً (الأمثلة كثيرة على ذلك في الطب وتقنيات النقل وغيرها على مشاكل يبدو حلها الأولي أبسط بكثير مما تتطلبه من تطوير اليوم لحل ما تبقى من المشكلة).

الترفيه يمثل استنزاف آخر للتقنيات والطاقة. صناعة الترفيه تأخذ حصة كبيرة من الطاقة الاستثنائية التي تمتلكها البشرية اليوم، وتأخذ حصة من العقول للتطوير، وتأخذ حصة من وقت الجميع وحصة كبيرة من التقنيات التي يتم تطويرها. صناعات الاغذية، الكحول، المخدرات، صناعة الجنس، الهواتف المحمولة، التلفاز، الطائرات، السيارات، الألعاب وغير ذلك مما قد يبدو بعضه أساسياً اليوم لكنه ليس كذلك بمقياس البشر طيلة تاريخهم او تاريخ الحيوانات الأخرى. كل شيء جميل وجد ليدخل السرور في نفس أي شخص من المليارات السبعة له قيمة عاطفية كبيرة، لكنه لا يمثل سوى استنزاف عبثي للطاقة الاستثنائية على الأغلب.

التفاؤل بأن هناك حلاً لكل شيء، وأن الطريق سيبدو مزدهرا كما كان في العقود الأخيرة هو انحياز ذهني لوضع قصير الأمد واستثنائي وفي ظل طاقة استثنائية. لا ضامن لإيجاد طاقة تجعلنا نجوب أطراف الكوكب بالطائرات في غضون ساعات. الطاقة البديلة القادمة ستكون لها فلسفة جديدة ونظام حياة واستهلاك جديدين وأنظمة حكم جديدة، ووفق معايير الفيزياء والحياة في هذا الكوكب فالطاقة القادمة لن تكون بالضرورة بوهج وعنفوان الطاقة الاستثنائية، الطاقة الشمسية مثلاً متوفرة، لكن لنفس السبب أن هناك حياة على الأرض وأن الكوكب بارد بما يكفي لنعيش، فإننا لا نستطيع التعويل كثيراً عليها لتحريك العالم بالسرعة التي تفعلها محركات الاحتراق الداخلي والمحركات النفاثة.

ستعمر الصواريخ والمتفجرات كثيراً بعد احتراق آخر قطرة نفط في آخر محرك، وتلك مشكلة أخرى وحبل آخر تخنق به تقنيات البشر نفسها. مما يعني ان الطريق لاستبدال الطاقة الاستثنائية سيكون محاطا بالنيران. ليس أن البشر لن يعيشوا في وفرة طاقة كالتي لديهم الآن فحسب، لكن إمكانية تدمير مجاميع البشر لقدرات بعضها ستزداد، فحينما لا يمكن التباري بالصعود الى الأعلى، سيكون التباري بإسقاط الآخرين نحو الأسفل. صناعة الحرب تستهلك فضلاً عن ذلك الكثير من قدرة البشرية الاستثنائية من معادن وطاقة وعقول، كل ذلك لإبقاء قدرة تدميرية هي لسوء الحظ أكثر ديمومة من أي تقنية أخرى. الغام الحروب السابقة ما زالت تنفجر. وبما أن الصواريخ ستعمر أكثر من النفط بكثير، فإن المجالات العسكرية ستكون آخر ما يفكر البشر بتقليل حصته من الطاقة في فترة ما بعد الطاقة الاستثنائية.

اللحظة التي تنعقد فيها تلك الحبال التي تلفها التكنلوجيا لخنق ذاتها تبدأ مع لحظة ذروة النفط والغاز التي أشار لها هوبرت[2]. ربما اجتزنا تلك الذروة للنفط وسنصل لذروة الغاز في 2035. لكن ما لا يمكن استرجاعه هو المعادن العديدة المفصلية لأهم الصناعات[3]، ومنها أي صناعات تتعلق بالطاقة. استخراج المعادن وصناعة التعدين يحتاجان لطاقة كبيرة، ومعدات الطاقة مستقبلاً تحتاج لمعادن مفصلية لصناعاتها. كل ذلك وهذه المصادر تستخدم في جميع ما ذكرنا مما هو أساسي لوجودنا أو هامشي او تدميري من مجالات تحتاج لمواردنا.

غير أن ما يجعلنا نقف موقفاً مختلفاً تجاه العالم ونحن نغادر الوضع الاستثنائي الذي قدمه الوقود الاحفوري بالمقارنة مع موقفنا حين حصلنا على الطاقة والتقنيات في بداية القرن التاسع عشر – قبله او بعده بقليل – هو الفاتورة الثقيلة والقائمة الطويلة من الأولويات التي لدينا اليوم. فهل لدى العالم عقل واحد حاسم ليقرر المفاضلة مستقبلاً بين حصة مصنع لقاحات وحصة كتيبة عسكرية من الطاقة لمدة سنتين؟ نحن نمتلك كل تلك الآلات لكننا سنمتلك طاقة اقل لتشغيلها، فماذا سيختار البشر؟ عندما حصل البشر على الطاقة والعلم والتقنيات بمستوى معين مكنهم من الانطلاق لقرنين أو أكثر من الزمن لم يكن هناك مسائلة للأولويات، لكن بعد ذلك من الواضح أن الاختيار سيكون مطلوباً. من حجم صناعات الطب (التشغيلي الأساسي منها وليس البحثي) والصناعات العسكرية وصناعة الترفيه يمكن التنبؤ بخيارات البشرية. الحديث لا يقتصر عن خيارات البشرية في التطوير، او التصنيع، بل حتى ادامة ما موجود. نحن لا نشعر أن علينا اصلاح الكثير من الأشياء اليوم فقط لان استبدالها سهل، فقط لأننا نمتلك الطاقة الاستثنائية.

المراهنون على ديمومة الطاقة الاستثنائية قد يؤجلون نقطة الذروة ونقطة الانتهاء فقط، لكن لا احد يمكنه القول أن مخزون النفط لا ينضب، أو أن هناك آفاق لبديل مشابه. بدائل النفط موجودة لكن العالم في ظلها يختلف. وإن كنت اجد جانباً أتفهمه في دعوات الناشطين المتطرفين ضد النفط، أو على الأقل استطيع عزوه لمنطق قد لا يدركونه، فهو الوعي بانتهاء النفط وضرورة استبداله، بغض النظر عن واقعية طرح تغيير المناخ نتيجة التزام بضعة بلدان أوروبية بترك النفط. إن كان هناك بديل أكثر فاعلية للنفط، أو بدائل عدة حتى ولو كانت البدائل الحالية، فإن الوقت للتغيير نحوها يجب أن يتم في ظل الطاقة الاستثنائية للنفط والا فسيفوت الأوان. مع ذلك، فإن عقبات التقدم التقني الأخرى ستسمر حتى مع تحسن مستقبل الطاقة.

نادراً ما استخدم صيغة المتكلمين “نحن” حين اتكلم عن البشر لأنني لا أجد ما يوحدهم سوى كونهم نوعاً من الحيوانات يواجه الطبيعة، وهذه الحالة تنطبق نوعاً ما هنا.

[1] Park, Michael, Erin Leahey, and Russell J. Funk. “Papers and patents are becoming less disruptive over time.” Nature 613.7942 (2023): 138-144.

[2] Priest, Tyler. “Hubbert’s peak: the great debate over the end of oil.” Historical studies in the natural sciences 44.1 (2012): 37-79.

[3] Jowitt, Simon M., Gavin M. Mudd, and John FH Thompson. “Future availability of non-renewable metal resources and the influence of environmental, social, and governance conflicts on metal production.” Communications Earth & Environment 1.1 (2020): 13.

تعليق واحد على “النهاية لاستثناء الطاقة والتكنلوجيا”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *