التصنيفات
الذاكرة عربي علم النفس

 أجوبة دون أسئلة.. بيانات دون قاعدة

[English]

مختصر مفيد: ما لم تكن لديك أسئلة مسبقة، شيء تبحث عنه، شيء تريد اثباته، فرضية تجمع المعلومات لها لتبرهن على صحتها، أو على الأقل الاهتمام بشيء ما يستدعي جمع المعلومات حوله، فلن تبقى المعلومات، ولو بقي شيء منها فلن يخزن بشكل صحيح بل بشكل اعتباطي متناثر محدود وفي شرائح الذاكرة القصيرة. يمكن لمعظم البشر ان يقرؤوا، لكن قلة من البشر تهتم بالمعلومات بدلاً من الترفيه، وأقل من هؤلاء هم من يمتلكون أفكاراً تنظم تلك المعلومات. لكن، وإن كنت من النوع الذي لا يمتلك أسئلة وافتراضات حول العالم، فلابد ان يكون لديك اهتمام ببعض الأشياء، لو حاولت ان تجمع المعلومات فركز على تلك.

عندما أخبرني أحد الأشخاص أنه قرأ الكتاب س، لم أصدق ذلك، وكنت على صواب عندما اختبرت معرفته ببعض القضايا التي يفترض أن الكتاب قد تطرق لها وعندما سألته عن هيكلية الكتاب وما يتناوله، وأيضاً عندما نظرت إلى شغفه بالمجال. لست قارئاً للكتب رغم أنني اقرأ بعض الكتب فترتبط بشكل وطيد بأرجاء ذاكرتي ويمكنني أن اجري مقابلة مع كتابها اليوم وأنا قرأت الكتب هذه قبل 10 سنوات. الصنف الآخر من القراء الذين صادفتهم كان شخصاً يحب أن يعرف المزيد حول مجال ما، لديه ولع في أن ينال المعرفة في ذلك المجال، رغم أنه لا يمتلك أسئلة، ولع، فرضيات أو أي فكرة عن المجال، كمن يحب أن يصبح طبيباً لكنه لا يعرف شيئاً عن الطب ولا يهتم بالطب. شخص من هذا النوع يحشد الكثير من المعلومات من الكتب وغيرها، لكن أيضاً كان من الواضح أنه لا يختزن الكثير في ذهنه. أنا أيضاً مررت بهذه التجربة. ما يحدث في هذه الحالات هو أن هناك من يقرأ أجوبة دون أن تكون عنده أسئلة، وأن يحاول أن يخزن بيانات معينة في ذهنه دون أن يمتلك قاعدة البيانات المناسبة لها، والنتيجة مضيعة للوقت.

الطريف في النوع الثاني من القراء والذي يتناسب مع مثال الطبيب، هو أن للكثير من طلبة الطب مثلاً آليات فعالة جداً لخزن المعلومات بكميات كبيرة والقاءها على ورقة الامتحان والخروج من الامتحان بسلام، لكن ليس لربط تلك المعلومات بما يكفي من الروابط في الدماغ، الأمر يشبه حفظ الحاسوب للكلمات، حيث لا تمتلك الكلمات روابط حقيقية مع عالم معين يدركه الحاسوب بل هي تمثيلات رقمية، كما يمكن للحاسوب استرجاع الكلمات بسهولة كبيرة. وبطبيعة الحال، فإذا بلغ حجم المعلومات المراد حفظها قدراً معيناً، لن نستطيع عندها أن نربط كل تلك المعلومات بقصص وتفاصيل كافية تجعل الخزن يبدو بنمط غير حاسوبي وأظن أن هذا ينطبق على المعلومات الطبية عند الدراسة. عندما سألت طالباً متفوقاً يدرس الفلسفة عن مفهومٍ الفلسفة أجاب فوراً بسرد التعريف وعندما قدمت له عبارة أخرى بنفس المعنى عجز عن الربط بينهما أو عن الربط بين تعريفه للفلسفة وعن دور الفلسفة في العالم.

تعرف قواعد البيانات ببساطة بأنها قوالب أو نماذج لخزن البيانات بحيث تحفظ لكل عنصر يراد خزنه جميع الصفات المطلوبة له وبأصناف البيانات المطلوبة لتلك الصفات او المعلومات المراد خزنها عنه. مثلاً، للأشخاص لدينا الاسم، سنة الميلاد، لون البشرة..الخ. حاسوبياً تعد قواعد البيانات سواء المترابطة منها (وهو صنف يمكن فيه خلق روابط بين العناصر) أو غير المترابطة، هي الطريقة الأمثل بل وربما الوحيدة لخزن البيانات اذا ما استثنينا المستندات التي نخزنها بملفات كيفما نشاء والتي تحتاج في نهاية الأمر الى فهارس أيضاً وهي نوع آخر من الجدولة.

بالنسبة لنا نحن البشر فإن الموضوع ليس بهذه البساطة، فالتعامل مع الأرقام ليس أسهل شيء وبالمقابل فإن خزن الوجوه يعد أكبر كفاءة. لكن بشكل عام نحن لا نتكلم عن هذا المستوى من المعلومات، بل عن مستوى أعلى يمثل قدرة شخص ما على حفظ كمية كبيرة مما في كتاب معين، أو قدرته على تقديم نبذة عن الكتاب، أو قدرته على الربط بين ورقة بحثية قرأها وحالة وجدها. البعض يختصرون هذا الأمر بأنه حفظ دون فهم، لكن ليس بالضرورة، احياناً نفهم كل شيء لكنه لا يبقى. هذا المستوى من تأطير المعلومات هو ما أتكلم عنه، وهو ما لم أجده في الأشخاص الذين تكلمت عنهم، والسبب الوحيد الذي يجعلني أكتب هذا الكلام في مدونتي وليس في موقع العلوم الحقيقية هو أنه رأيي، وهو أننا نحتاج أن تكون لدينا تصورات مسبقة، اندفاع أيديولوجي، انحيازات، أسئلة ملحة، فرضيات وفي هذه الحالة فقط سنتمكن من خزن المعلومات بل قد نخزن البيانات فقط؟ إيجاد فرضية معينة يعني انشاء قاعدة بيانات بالنسبة لعقولنا.

احترم هؤلاء الذين يهتمون بشكل كبير بأي شيء الى الدرجة التي يبدؤون فيها بجمع المعلومات. مهما كان موضع الاهتمام تافهاً، فإن مرحلة جمع المعلومات وتنظيمها حول شيء نهتم به هي مرحلة فكرية متقدمة جداً، لا تبتعد كثيراً عن الباحث الذي يجمع كل ما يتعلق بموضع بحثه لغرض اثبات فرضيته او نفيها أو لغرض وضع أجوبة امام أسئلة كثيرة.

أول نصيحة اعطيها لشخص يريد قراءة كتاب معين هي أن يسأل نفسه إن كان يهتم فعلياً بالموضوع، لأنه لو لم يكن مهتماً فمن المحال أن تكون لديه أسئلة وما لم تكن لديه أسئلة كافية فمن المحال أن تكون لديه فرضيات او تصورات مسبقة يسعى لإثباتها. القراءة مع انعدام الاهتمام لن تكون سوى وقت ضائع وسيزداد هذا الوقت الضائع اذا ما كانت المادة المقروءة كتاباً. الرغبة في حيازة المعلومات عن مجال معين لن تولد الاهتمام به، من الجميل أن أعرف عن التشريح أو الجراحة أو علم وظائف الأعضاء وكلها ليست مجالات تخصصت بها، لكن في الواقع أنا لا امتلك ما يكفي من الاهتمام والاسئلة المطلوبة لتلك المجالات، ربما انا اكثر اهتماماً بالطب من غيري لكن اسئلتي تبقى محدودة امام الجبال من المعلومات التي تتضمنها تلك المجالات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *