التصنيفات
عربي

شارع المتنبي: شارع الورق أم شارع الثقافة؟

شارع المتنبي: شارع الورق أم شارع الثقافة؟

يوماً بعد يوم يرتفع صيت شارع المتنبي أكثر في العالم بصفته شارعاً للثقافة حتى أصبحنا نسمع به من الرحالة الأجانب الجدد الذين صاروا يزورون العراق فجأة منذ عام 2021. كثير من العرب الذين لا يعرفون عن العراق سوى صدام حسين وكاظم الساهر صاروا يعرفون أيضاً عن “شارع الكتب” وهذا أمر جيد جداً ولا يعيبه سوى أمر واحد، وهو أن شارع الثقافة هذا وباستثناء أجزاء قليلة منه يعد بالفعل شارعاً للثقافة، وفيما عدا ذلك فهو شارع لبيع الأقلام، “حية ودرج”، ألعاب الأطفال، الأعلام، دروع التكريم وغير ذلك مما لا يمت للكتاب أو للثقافة بصلة، هذا إن لم نتكلم عن محلات الكتب بذاتها.

مرة أخرى تجولت في شارع المتنبي قبل بضعة أيام. زاد الشارع بهاءاً سنة بعد سنة، أول مرة رأيته فيها مع أبي عندما كنت صغيراً حيث لم يكن للشارع تصميم موحد أو بلاط جميل كالموجود حالياً ولا أذكر حتى إن كان مخصصاً للمشاة فقط أم يمكن للسيارات أن تمر به، ثم حل اليوم الأسود في 2007 حيث جرفت مجزرة أخرى أرواح العشرات وحطمت الكثير من المحال والمكتبات ليعقبها خلال السنوات القادمة عملية ترميم غيرت ابنية الشارع وواجهة دخوله وبلاط أرضيته وجعلته بعمارة جميلة موحدة طيلة الشارع (وهذا أمر صعب ونادر في العراق). لا أزعم أنني أعلم بما كان عليه الشارع قبل الانفجار، لكن من معرفتي بفاجعة اثنين من أصحاب المحال هناك أظن أن التفجير قد سلب أرواح عدد من بائعي الكتب أو أنه دمر ممتلكاتهم كلياً على الأقل وكانت تلك طعنة من الطعنات. ثم كانت آخر التطورات حيث في الأيام الأخيرة وجدت عناوين خشبية موحدة للمحال (بعضها كتب بالانجليزية بطريقة خاطئة بشكل مخجل).

في مرحلة أخرى من تاريخ الشارع وتحديداً بين 2011 و2013، صارت فئة جديدة من الشباب تستكشف الشارع دون أن تضيف الكثير لسوق الكتب (هذا إن اشترى أحدهم كتاباً من الأساس). كان يمكن رؤية هؤلاء ببيريات الثقافة وبكاميرات حديثة لالتقاط الصور لبعضهم البعض في كل زاوية من زوايا الشارع وربما لشراء عنوان يمكن اختصاره ببعض الجمل الفارغة لاستكمال الحقيبة الثقافية الى جانب البيرية والكاميرا لتلك الفئة من الشباب. وتدريجياً صارت تلك الفئة تتزايد حتى صار يبدو أنهم الأغلبية في الشارع. لحسن الحظ، يتواجد هؤلاء يوم الجمعة فحسب (كجزء من طقوس الثقافة).

إلى جانب هؤلاء هناك أب مع أطفاله (غالباً ابنته) يمشون في الشارع، وفي أغلب الأحيان لشراء العاب، دفاتر وقرطاسية أو ملازم للدراسة وهذا كله ليس للأغراض الثقافية ودون إمكانية أن تعزز تلك الفئة سوق الكتب. يمكن رؤية الكثير من هؤلاء أيضاً في كافة أيام الأسبوع.

مثل هؤلاء الأصناف فإن أصناف المحال التجارية في المتنبي لا تنتمي الى الكتب إلا على نطاق ضيق جداً. حالما تدخل شارع المتنبي ستجد أن إيجاد مكتبة من بين جميع محال القرطاسية والدروع والأعلام ومقرات المطابع هو أشبه بعملية القنص. شخصياً أجد المسار الخاص بي لا يتعدى بضع محلات. محلات الكتب صارت تنسحب الى الأزقة ونحو عمق تلك الأزقة، خصوصاً تلك المحال التي تبيع كتباً ذات صلة بالحركة الثقافية، يتجه هؤلاء نحو الزوايا المظلمة ليجدوا سعراً يتناسب مع واردهم المحدود القادم من جمهورهم المحدود. لن تجد محلات الكتب بشكل متسلسل متواصل حتى تبلغ نهاية الشارع وتحديداً في محيط القيصرية التي تضم مكتبة الحنش، ومقابلها هناك أيضاً المزيد من التوسع للقرطاسية والمطابع.

يحدثني أحد الأصدقاء عن أحد بائعي الكتب الذين يغيرون معادلة الثقافة في المتنبي يوم الجمعة، وأعني هؤلاء الذين لا يمتلكون محالاً بل فقط يجلسون في مساحة من الأرض (بسطية) يوم الجمعة، فيقول هذا البائع أنهم ينظرون لبائع الفلافل المجاور بحسرة إذ يبيع المئات أو الآلاف من اللفات، بينما لا يبيع هو سوى بضعة كتب. وما يميز هؤلاء الباعة هو الكتب القديمة، ذات الثمن الرخيص، فضلاً عن انتشارهم خارج حدود المتنبي حتى الميدان، أيضاً كتبهم المتنوعة اللغات والعشوائية المحتوى، تجد كتاباً عن عازف بيانو بالروسية ورواية بالانجليزية وكتاب في سبيل البعث لميشيل عفلق في نفس الكومة. في كثير من الأحيان هذه الكتب ليست سوى نتاج لعمليات تصفية لمكتبات أشخاص ماتوا ورميت المحتويات غير ذات القيمة لتباع ضمن تلك البسطيات الكتاب بألف دينار أو أقل من ذلك. أظن أننا تخلصنا من كثير من كتب جدي بنفس الطريقة، وكتبه كانت لا تقل عشوائية عما ذكرته آنفاً.

فيما عدا المحتوى الثقافي من الكتب هناك عدة تصنيفات ذات أسواق موازية مستقرة، هناك مثلاً المحال التي تبيع الكتب الدينية، ربما كان نشاط السنة من هؤلاء أكبر بكثير في التسعينات عما هو عليه الحال اليوم، وربما كان للشيعة عصر ذهبي للكتب الدينية بعدما زالت كافة أشكال المنع بعد إسقاط نظام صدام لكن أيضاً لسنا اليوم ضمن ذلك العصر الذهبي. لكن ما أظنه أن هذا السوق لم يمت يوماً وأن معدل التذبذب به أقل حدة مما هو عليه في كتب المجالات التي نحاول أن نختصرها بمصطلح ثقافة هنا. ومثل الدينية هناك سوق أكثر استقراراً للكتب القانونية وهناك ربما ثلاثة مكتبات لهذا الجانب في المتنبي، بل قد يكون هذا الجانب أكثر رواجاً مع العدد الكبير لكليات الحقوق في العراق حالياً.

ما هي كتب الثقافة أو الفكر التي ننعى المتنبي لانحسارها فيه؟ هي كتب تطرح قضايا تناقش الشأن العام بمنهجيات معرفية رصينة، بدءاً من الشأن السياسي إلى قضايا الكون التي يناقشها العلم، حتى بعض الروايات التي يمكن أن تحرض التفكير بتلك القضايا هي كتب فكرية تختلف عن الروايات التي تسرد لغرض الترفيه فحسب. الكتب العلمية على رأس تلك المجالات، وهذه تكاد تنحصر بمكتبتين أو ثلاث وعناوينها التي تصدر كل سنة يمكن عدها على الأصابع، هناك الكتب الفكرية والفلسفية وهذه أيضاً فقيرة لكن لاتساع نطاقها فهي تبدأ مما يصنف على التنمية البشرية وينتهي بالكتب المحترمة لأفكار الفلاسفة الجدد. هناك جانب كبير للسياسة، منها ما هو متخصص حول إقليم معين أو ما هو متخصص ببلد أو بجانب معين اقتصادي أو ديني وهذه كثيرة وتتواجد في مكتبات عدة. هل تنحسر هذه أيضاً؟ بصراحة كثيراً ما أرى عناوين هذه الكتب بكثرة لكن لم يصدف يوماً أن التقيت بشخص من جمهورها، وهذا ليس حكماً يعتد به بالتأكيد.

هناك كتب أخرى تفوق المتنبي حجماً بالأسواق التي تصل إليها، كم هائل من الترهات في كتب التنمية البشرية والعناوين التي صارت على كل لسان عن طريق الصدفة ليس إلا. هناك كتب الطبخ والأبراج وقصص الأطفال، وهذه يمكن أن تجتاح مجتمعة نصف معرض كتاب بأكمله ويمكن أن تغطي أكثر من نصف المتنبي. هل كتب الطبخ دليل على الثقافة؟ وهل كتب الأبراج دليل على شيء غير انتشار الجهل؟ وهل هي ظاهرة جيدة أن ألا يقرأ نصف من يمكن أ يقرأوا كتاباً سوى كتاب شخصية الفرد العراقي الذي لا يشبه إلا من يرفع رأسه نحو السماء ليبصق؟

هل القراءة بالهاتف وانتشار قرصنة ورفع الكتب هي السبب؟ لو كانت هذه سبباً لانقرضت المكتبات والكتب الدينية قبل أي مكتبة أخرى، فالكتب الدينية السنية والشيعية على حد سواء ومعها قطاع كبير من كتب اللغة والتاريخ والأنساب تمت أرشفتها منذ التسعينات بشكل ممنهج ومنظم. ألا يفترض أن يبدأ الانحسار بها؟ أم أن الانحسار بكتب الثقافة لم يشهد نقطة انطلاق حديثة ولطالما شغلت ذلك الحيز الضيق في شارع المتنبي؟ من الصعب أن أجيب على ذلك، لكن ما يمكن أن أحكم عليه بنفسي هو أن شارع المتنبي هو شارع الورق وليس شارع الكتب، كما أنه ليس شارع الثقافة بالتأكيد. الورق هو ما يجمع بين كتاب علمي بالغ الروعة والفائدة وبين كتاب قانوني وآخر للطبخ وأيضاً ما يجمع دفاتر التلوين والامساكيات وبطاقات الزفاف وكتب الشكر والتقدير التي تطبع وتباع في الشارع.

لو أردنا أن نرسم مقطعاً تشريحياً لذلك الشارع، لكان 70% منه ضمن القرطاسية والمطابع التجارية، أما الثلاثون المتبقي للكتب فربعه للدين وربعه للقانون، وثلث لمزيج الأبراج وكتب الطبخ والتنمية البشرية (كيف تصبح مليونيراً بيومين)، أما المتبقي فهو ما يمكن أن نضعه في رف الفكر والثقافة بعد أن نقتطع منه نصفاً للروايات بغثها وسمينها ونافعها. ولا أدري أيضاً إن كان يجب أن نضع كتب الدراسة وملازمها ضمن الـ 70% أم مع الثلاثين؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *