أذكر أنني واخوتي كنا قادرين على الذهاب الى المدرسة بمنطقتنا في شارع فلسطين والتي تبعد أقل من 700 متر عن البيت وأن نقضي ذلك الطريق القصير كله ونحن نمشي على الرصيف. كان يمكن لأمي أن تقدم لنا نصيحة “المشي على الرصيف” لكنها لا تستطيع أن تقدم نفس النصيحة اليوم لحفيدها، وربما لم تستطع حتى أن تقدم نفس النصيحة لأخي الصغير. أول الأرصفة التي تم قضمها كان يبعد بيتين عن منزلنا، لقد اقتطعوا معظم مساحة الرصيف بمربع من الحشيش الذي لم يستفيدوا منه بشيء – فلا يمكن الجلوس على تلك المساحة مثلاً – وتركوا أقل من 50 سنتمتر على حافة الرصيف للمشاة. أذكر أن قدم أمي قد انزلقت في احدى المرات نحو الهوة بين الرصيف والشارع والتي تمثل فارقاً آخر بين شوارع لندن وبغداد.
إذاً، وحتى عام 2001 تقريباً كانت الأرصفة في منطقتنا ببغداد سليمة ثم بدأ الناس بقضمها عبر مد الكراجات، رصف السيارات، اقتطاع مساحات للزراعة، أشجار، نخيل، بضائع المحال التجارية، مواد البناء، وحتى أسلاك شائكة أو أسيجة ثانوية تضاف دون أي سبب سوى لقضم الرصيف. أما في لندن، فباستثناء اليوم الذي يُخرج فيه الناس حاويات القمامة صباحا لكي تأخذها سيارات البلدية فلا يوجد أي سبيل لقضم أي متر من الرصيف الرصيف. الرصيف هو المكان الخاص الآمن للمشاة على جانبي الطريق.
ذكرت أيضاً المساحة بين الرصيف والشارع. قبل 2001 (أي قبل أن تمتلك حكومة العراق بعض الأموال بجيبها في نهاية الحصار) كان الشارع بمستوى واحد حتى حافة الرصيف، لكن وبشكل غريب رأيته لأول مرة في العام 2001، فقد تم صب الشارع بالاسفلت وترك فسحة منخفضة غير ممتلئة بالاسفلت او بأي مادة اخرى بين الرصيف والشارع. هذه الفسحة صارت تمتلأ قبل كل شيء بالأتربة وهذا أيسر المشاكل الناتجة منها ففي كثير من الأحيان تجمع هذه الفسحات المياه الآسنة المتجمعة من غسل الكراجات أو من فائض المياه أو من مياه المجاري أحياناً، كما رأيت حالات نمت فيها الأدغال بهذه المساحة. لا حاجة للقول أن هذه الظاهرة لا وجود لها في لندن. لكن رأيت ظاهرة اسوء منها عندما كنت أشاهد صوراً لأكرا عاصمة غانا في غرب أفريقيا، حيث تعتبر تلك الفسحات بين الرصيف والشارع مجاري مكشوفة وقرأت أن بعض الأجانب ممن لم يتوقعوا وجودها قد سقطوا في تلك المجاري في بعض الحوادث.
اختفى الرصيف وامتلأت المساحة الفاصلة بينه وبين الشارع بالأوساخ او المياه ثم تأتي الظاهرة الأخرى والتي تشترك فيها مدن عربية عديدة (على الأقل تونس والقاهرة ومكة وجدة وهي المدن العربية الأخرى التي رأيتها)، والتي لا يمكن ان نلوم البشر عليها، إنها ظاهرة الأتربة. في أي شارع عراقي (أو عربي) هناك طبقة من التراب الذي تجلبه الرياح من أقرب صحراء والذي تعد محاولة تنظيفه وجرفه محاولة عبثية تنتهي بأشخاص مهووسين بغسل الشارع ويتمتعون بدرجة عالية جداً من التوتر لا تطال رصيف البيت فقط بالتأكيد، أو ينتهي الأمر بشوارع مغطاة بالأتربة. لن أقارن هنا بين المدينتين فهذا شأن من شؤون الطبيعة.
لكن الظاهرة السلبية الناتجة من ذلك هي أن السيارات ووفقاً لقوانين الفيزياء ستدفع الغبار أيضاً نحو المتر أو نصف المتر الجانبي من الشارع (ونقصد بالشارع هنا ممشى السيارات)، والذي يكتسي بالشوارع البغدادية بطبقة سميكة من الأتربة التي جرفتها السيارات. وبطبيعة الحال، فالناس اما ان يرتدوا نعالات تكشف القدمين وتتناسب مع جحيم الصيف، أو أنهم من طبقة تشبه المهووسين بتلميع الرصيف، وهم الذين يرتدون أحذية جلدية سوداء في شارع بغدادي ويبتغون الوصول الى وجهتهم بحذاء لامع. طبعا، ستلجأ الفئتان الى قضم آخر جزء متاح ونظيف من الشارع، أي سيبدأ الناس بمشاركة السيارات في آخر جزء متبقي من الشارع.
اقتسام الطريق بين السيارات والمارة يخلق: حوادث، حوادث وشيكة تؤدي الى عراكات، والعراكات تؤدي الى حوادث أو مصالحات وطنية بتدخل الشرفاء والوطنيين، المصالحات والعراكات تخلق ازدحامات. لكن لم تنتهي القصة بعد، فظاهرة الحقوق المتداخلة تلك لم تتطرق الى ركن السيارات!
حتى هذه اللحظة، ولحسن الحظ، ما زال هناك قاعدة أخيرة يلتزم بها الناس في بغداد عندما يركنون السيارات (ولعلها أيضاً قيد الكسر): لا تركن السيارة أمام باب. ولعل الالتزام بهذه القاعدة هو بدوافع الخوف من أصحاب الباب الذين قد يفعلون السوء بالسيارة وصاحبها. لكن بخلاف تلك القاعدة فكل شيء متاح: تركن السيارات بجانب الرصيف، تركن بجانب السيارات التي ركنت بجانب الرصيف، وقد يركن أحدهم السيارة بصف ثالث، يصعد أحدهم الرصيف، يأتي آخر فيغلق معبراً لخروج سيارات تغلق أصلاً مخارج سيارات أخرى “خمس دقايق بس” والدقائق الخمس تلك لها أبعاد زمكانية مختلفة ولا يمكن تفسيرها الا وفق انحناءات الزمكان في ذهن القائل وما اوتيتم من العلم الا قليلاً. في هذه النقطة سنجد في لندن شيئاً لا نجده في بغداد (بخلاف العادة)، سنجد رجلاً (بنغالياً في العادة) يرتدي بزة خاصة ويستمتع بأخذ صور للوحات المركبات لأي سيارة تركن في الشارع الذي يقع تحت مسؤوليته، رجل البطاقات هذا يلتقط الصورة أو يكتب الرقم فيتم التحقق من احقية المركبة بالركن في تلك النقطة ويأتي الجواب بالإيجاب او بغرامة توضع بكيس أصفر وتلصق بالسيارة.
نعود لممشى المارة طبعاً، فبعد أن انتهت القصة بالمشي غالباً على طريق السيارات، صار المشي عشوائياً وحلزونياً، يمكن أن تمشي مترين على الشارع، ثم تركن أمامك سيارة فجأة ثم تأتي حفرة فتغير مسارك مرة أخرى وقد تعبر الشارع! حفرة؟ الحفر هي الجزء الآخر المفقود في لندن والموجود في بغداد وهي على أنواع، فمنها ما نتج من فعل الانسان مثل حفر البلدية العميقة التي قد تطمر ثانية بفترة تتراوح بين أسابيع الى سنوات وقد تتسبب باغلاق جزئي او كلي للشوارع، ومنها ما نتج من فعل عوامل التعرية مثل المياه المنسابة على الاسفلت لفترات طويلة (لكن أكثر تلك المياه هي من أفعال الانسان أيضاً نتيجة لغسل السيارات او الرصيف أو انشاء كراجات غسل السيارات او مد خطوط غير رسمية لتصريف المياه). نعود للمقارنة، لا يمكن أن أنزه لندن عن الحفر في الشارع، لكنها لا تتجاوز سنتمترات معدودة عمقاً ولا يمكن أن تسبب الكثير من الاضطراب للراكب كما أنها لن تؤدي بالراجل لحرف مساره.
الانسان ببغداد لم يُنشئ الأنهر والاخاديد والمنخفضات في الشوارع فحسب بل انشأ التلال والجبال الرواسي، انشأ “الطسات” أو “المطبات” التي يمتلك معها علاقة غريبة جداً، فمن جهة يكره السائقون المطبات بشدة بحيث يوقفون سياراتهم تقريباً حين يمرون فوقها، لكن أمام البيوت تمتد حقوق صاحب الدار التي أخذت الرصيف لتجتاح الشارع ولتجبر المارة امام البيت على خفض سرعتهم الى أقصى حد ممكن. للمطبات المصطنعة طرق عديدة للانشاء بعضها يفشل تلقائياً نتيجة شدة ارتفاعها مما يؤدي لتكسرها وبعضها الآخر لا يذللـه سوى الزمن، أما اغراضها فهي: أمنية، مرورية، أو اعتباطية، أي فقط لأخذ ما يفترض أنه حق بالعرف العام. لكن بالنسبة للغرض المروري فهذا يفتح ملفاً آخر من أغراض استخدام الشارع، وهو لعب الأطفال. أحد أصحاب المطبات الذين جادلتهم للمرة الأولى والأخيرة قال أن أطفاله يلعبون في الشارع والسيارات تمشي بسرعة. للمقارنة هنا، المطبات تصمم في البلاد المتقدمة لغرض واحد وهو انك ستحتاج للمشي بسرعة 20 ميلاً بالساعة أو اقل بقليل حين المرور فوقها واذا مشيت بسرعة أكبر من ذلك فتسبب لك ازعاجاً. لكن في العراق فهي تتسبب بإيقاف سرعتك تقريباً، اما اذا كنت تعاني من ألم ما ومررت فوقها بسرعة فقد تعاني من مقدار من الألم يعادل صفعة متوسطة القوة. أحيانا تشعر باحساس الصفعة حتى لو لم تكن تعاني من ألم. لا ننسى أيضاً احد الفروقات الكبيرة بين الشوارع في المدينتين، وهو أنه من الصعب أن تجد سيارة تخرق حدود السرعة في الشوارع الضيقة بلندن، لكن يمكن ان تجد سائقاً يسوق بسرعة جنونية فقط لانه استطاع ذلك.
ملاعب الأطفال هي الجزء الآخر، توضع الأهداف على طرفين من الشارع، وتتوقف اللعبة مؤقتاً حالما تمر احدى السيارات ويأخذ اللاعبون بعض الوقت للتوقف ثم تمر السيارة. ولن أزايد على احد في هذه النقطة فقد لعبت بالشارع في الأعوام 2004 و 2005 مع عدد كبير من الأشخاص رغم وجود ساحة كبيرة قريبة من منزلنا. لم أجد هذه الظاهرة على الاطلاق في بريطانيا فبالنسبة للسائقين يعد الأمر خطاً أحمر حينما يعبر أحد المارة فما بالنا بملعب منسجم مع حركة السيارات.
الشوارع ايضاً مجالس، وفي بعض الشوارع وبعض الأحيان فالشارع مجلس دائم لا ينقطع ويتراوح عدد الجلوس به بين اثنان وعشرة بحسب ساعات اليوم، وكأن تلك الأقوام من البدو وأشباه البدو قد وجدوا دار الندوة وديوان العشيرة الصغير الخاص بهم هناك.
أمام كل تلك الظواهر تعد نقاط التفتيش ربما ظاهرة هامشية فعلى الأقل يفترض (افتراضاً فقط) أن لها غرض منطقي، لكنها كثيرة جداً ومتعددة الأغراض وتوضع في أماكن تسبب اجهاضاً تاماً لحركة السير في بعض الأحيان ودون أي منطق. وكأن الدولة تريد ايضاً أن تأخذ مساحتها الشاسعة من الحقوق مثلما يريد كل مواطن آخر، لكن الدولة أكبر وحقوقها أكبر. عندما وصلت لبريطانيا وفي الأيام الأولى تحديداً كنت آخذ بطاقتي الشخصية حينما أخرج لمسافة بعيدة نسبياً، لكن تبددت هذه العادة، حيث لم يصدف أن مررت بأي نقطة تفتيش حتى هذه اللحظة بعد ما يزيد على ثلاثة سنوات. أذكر أنني مررت بجانب نقطة تفتيش في محافظة كامبرج، لكنها لم تكن تقطع مسار المارة، بل كان الشرطة يقفون ويؤشرون من بعد لمن يريدونه ان يتوقف ليأخذ مساحته الآمنة بالتوقف خلال الخمسين او المئة متر القادمة.
تبقى في المشهد أمور كثيرة، ليس هناك اسلاك في لندن، بينما تسد الاسلاك الأفق في بغداد. هناك بيوت مبنية بطرق متشابهة في لندن مما يجعل مظهر الشوارع متسق وممل ومنظم في نفس الوقت، لكن في بغداد هناك بيوت ذات تصميم سريالي حديث، بجانب بيوت تقليدية المظهر تجاور بيوتاً اعتيادية جداً. ليس هناك أي اتساق. هناك بيوت جميلة في الشارع لكن الشارع بذاته ليس جميلاً. هناك تجاوزات في بغداد أيضاً لا يمكن أن نعتبرها ظاهرة لكنها تشيب الولدان، مثل أحد امراء الحرب الذي بنى جزءاً من بيته فوق الشارع مباشرة.
مهما تخيلنا أن المجتمع العراقي مجتمع شرقي متآزر ومتضامن بطبعه فهذا غير دقيق. العراقيون يشكلون جماعات صغيرة كالأسر المترابطة التي تتشكل من عدة اسر بالمفهوم التقليدي وهناك الكثير من التضامن والتآزر بين تلك التجمعات، وحتى على مستوى اكبر بقليل كالعشائر. لكن ليس هناك الكثير من الترابط والتآزر بين افراد المجتمع. هناك الكثير من سوء الظن والاستعداد للمشاكل والعداء والترقب في المدينة، أسيجة تزيد عن المترين ارتفاعاً (لم تكن الاسيجة في منطقتي كذلك حتى التسعينات)، نوافذ مدرعة بزجاج مانع للرؤية وبمشابك حديدية سميكة تحول دون عمليات قطع الحديد حتى، أبواب ملفوفة بسلاسل، اسلاك شائكة بين الجيران، كاميرات مراقبة، أسلحة في البيوت، شاشات لمحادثة من يطرق الباب، أبواب مزدوجة أو أبواب سميكة جداً. أجزاء المجتمع تعيش بحالة رعب دائم من بعضها، ولديهم كل الحق فالقصص المرعبة كثيرة وحالات السرقة لا تحصى وحتى لأكثر الأشياء تفاهة، وحينما لا نجد تلك التحصينات لدى الطبقات الأفقر، نجد مفهوم الشوارع التي لا تنام، حيث هناك مجموعات من الشباب تتخذ الشارع مجلساً دوماً وهناك كثافة سكانية كبيرة جداً في الزقاق بحيث يصعب سرقة احد البيوت كما أن قيمة الموجودات تنخفض نظراً لفقر تلك المناطق وتغدو عمليات الاغتيال والخطف أكثر صعوبة أحياناً.
تتفاجئ في المدن البريطانية بالمقابل بإمكانية رؤية ما بداخل النوافذ بسهولة، بعض البيوت لا تغلق الستائر ليلاً، إنهم بمفهومنا العراقي “جامخانة”. وفي الغالب ليس هناك تحصينات على النوافذ، نعم هناك كاميرات وأجهزة انذار في أغلب الأحيان، لكن لا توجد اسيجة واسلاك شائكة تحيط بالمنازل، الخصوصية بين المنازل منخفضة والعزل الصوتي منخفض. أحد البيوت التي عشنا بها خارج لندن كان يمكن الدخول اليه بسهولة من خارج البيت الى غرفة نومنا ليلا اذا كانت النافذة مفتوحة، ولا يبالي احد بذلك فجميع النوافذ مفتوحة. غلاء المعيشة أكبر بكثير من قيمة ما قد يسرقه شخص مما هو موجود في احد البيوت، وأقل قيمة من المخاطرة الناتجة من سرقة تلفاز او جهاز تابلت ومحاولة بيعه بعد ذلك (رغم وجود الكثير من الحالات المشابهة).
المشهد الذي نسيت أن أضيفه للشارع والذي يتصل بتلك البيوت المحصنة والمجموعات البشرية المتعادية هو تجمعات القمامة. من الصعب أن تتخذ مساراً معيناً للمشي في بغداد دون أن تواجه نقطة لتجمع الازبال، وفي أحسن الأحوال قد تكون تلك النقطة عفوية أي أن الرياح جمعت الازبال بمكان ما. والمانع الوحيد لرمي الأزبال في الشارع هو الخوف ممن قد يدرك من رماها قرب بيته ويجد فيها تهديداً لفقاعة نفوذه وحقوقه (التي ذكرنا سابقاً انها تمتد لتقضم الرصيف والشارع) أو الادراك بأن تجمع الازبال سيجلب رائحة سيئة للبيت نفسه. يحمل العراقيون اساطيراً حول المناطق النظيفة والمناطق الوسخة وحول الفئات القذرة والطاهرة في المجتمع، لكن الواقع أنني رأيت كثيراً من أفراد الطبقات “المثقفة” بالتعبير العراقي يرمون القمامة في ساحات عامة في مناطقهم “الراقية”. في البعض الأحيان يعتذر الناس عن ذلك بعدم مجيء سيارات البلدية لوقت طويل، وفي أحيان أخرى يستخدمون رمي الأزبال كوسيلة للتجاوز وسنأتي لذلك، لكن بشكل عام فالأزبال هي جزء من المشهد سواء بفعل الانسان او الطبيعة. شيء كهذا يصعب ايجاده في بريطانيا، لكن رمي الأوساخ في الشارع وارد بدرجة اقل من 10% مما في بغداد، ويكثر في المناطق التي تشيع فيها نفس الأنماط الثقافية الشائعة لدينا.
يمكن أن تجد مأتماً منصوباً في الشارع، عرساً، محكمة عشائرية (فصل). يلعب الشارع هنا دور مساحة قابل للتوسع والاستباحة في ثقافة ليس فيها مفهوم للرقي بمعنى تبجيل الالتزام بالحدود وإظهار الاقتدار بالجمال والفن. بل ليس الرقي هو المفهوم الثقافي الذي يشغل اهتمامنا وانما مقدار المساحة التي نشغلها عرفياً وقانونياً، مؤقتاً أو بشكل دائم. تقول الأغنية العراقية “عمامي هواي والشارع يسدونه”، حيث يفتخر المطرب بكثرة أعمامه بحيث أنهم يغلقون الشارع، اذا كان لديك بيت خذ الرصيف، اصنع مطباً، افتح دكاناً، ابني طابقاً ثالثا ورابعا، املأ مساحة البيت بالبناء وابتلع الرصيف ثم اركن السيارة على الجانب. اذا كان هناك مساحة فارغة بجانبك، ابتلعها فقد يبتلعها غيرك، اللهم اذا جاء صاحبها ووضع سياجاً، اصنع منها حديقة لو استطعت ولو لم يداع بها صاحبها، ابتلع المساحة المقابلة لك ايضاً، اغلق الشارع لو استطعت، ضع موانعاً تمنع من يريد ركن السيارة امام بيتك، فليلعب الأطفال خارجاً، اجلس انت في الشارع، اقم مآتمك واعراسك واحداثك الاجتماعية في الشارع، اغلق الشارع، اثبت سطوتك ونفوذك على الشارع، في النهاية لو لم تفعل ذلك فسيفعله غيرك، عش ظالما ولا تعش مظلوماً، عش متجاوزاً ولا تعش متجاوزاً عليك.
نضع كل ذلك في ميزان المقارنة، لا يمكن المقارنة حقاً، ولا يمكن معرفة العقلية الكامنة لدى الشخص الإنجليزي، بالتأكيد هو لا يفكر بهذه الطريقة لكنه لا يستطيع أن يطبق هذه الطريقة حيث تمنعه القوانين. اقصى تجاوز قام به شخص في شارعي هو أنه قام برفع السياج الخشبي المنخفض الذي لديه بمشبك خشبي جميل صنعه يدوياً، واتضح لي ان هذا غير مسموح فاشتكى عليه احد الجيران وطلبت منه البلدية ان يرفعه ليبقى سياجه اقل من متر واحد. اعترض الرجل بعد ذلك بوضع لافتة احتج فيها على من اشتكى عليه بعبارات مؤدبة خفيفة اللهجة بلغتنا رغم انها توضح امتعاضه الشديد.
لكن في المنطقة المجاورة ذات الكثافة العربية / الافريقية / اللاتينية (واكثر من ذلك حيث اسمي المنطقة ملتقى الحضارات)، اكتشف الناس فتحة في باب دكان مقفل وابتدأ سكان ملتقى الحضارات بحقن أكياس القمامة عبر تلك الفتحة، حتى جاء صاحب المكان يوماً وانطلقت رائحة تعيد جميع ذكريات الوطن. تم تنظيف المكان وضمان اغلاق الباب وسد الفتحة جيداً. قطع “من يرمي الازبال هنا هو ابن زنا” يرادفها في ملتقى الحضارات كاميرا وتحذير من الغرامة.
لا يخلو التجاوز على المساحات في العراق من النزعة للتجاوز المتعمد، او كما يقول الشاعر العربي “فمن لا يظلم الناس فلعلة لا يظلم”. يصدف أن تكون القضايا المتعلقة بالمطب والرصيف والشارع قضايا تمس الحق العام، لكن في حالات كثيرة يكون التجاوز متعمداً مثل القاء الازبال عند باب بيت شخص ما. يخضع ذلك لهرميات وأنظمة للقوة بين الجيران وسكان المناطق، احدى تلك المراحل مثلاً هي “يجر بوشه” الذي نأتي به هنا كمثال على القيام بأفعال تتضمن التجاوز بهدف ضبط العلاقات والمسافات مع المحيط، المصطلح في الأساس ميكانيكي ولا افهمه بالضبط لكنه يشير الى حالة يريد بها شخص أن يفرغ نزعات التجاوز الموجودة عند خصم محتمل عبر اخافته او التجاوز على حدوده مسبقاً فلا يجرؤ على التجاوز بعد استباق الهجوم عليه.
في أحيان كثيرة تنتهي دورة حياة الشارع بعد العديد من التجاوزات باغلاق الشارع كلياً، تلك هي النهاية، يغلق الشارع عندما تقرر ذلك جهة عليا مثل الحكومة او الشركات الأمنية او احد المسؤولين ويصبح بمثابة ساحة فاصلة بي البيوت المطلة عليه لكنه لا يمثل وظيفة الشارع بصفته معبراً للمارة والمركبات. وفي أحيان أخرى تعود الشوارع الى الحياة نسبياً وقد خسرت ما خسرته. لكن في أغلب الأحيان فإن الرصيف وهامش آخر ملحق به هي أمور صعبة المنال في العراق.
سبب كتابتي لذلك هو للذاكرة فقط. تدريجيا انا ابتعد عن العراق وانسى بعض التفاصيل والتغيرات. أما المقارنة فالهدف منها سيكولوجي، رغم أنني لن أصل لاستنتاجات واعدة عبر مقارنة فضفاضة كهذه لكنها على الأقل تضع بعض الخطوط العريضة بذهني فقط ولا يرقى ذلك لمقام الاستنتاج او النتيجة. أيضاً، يوماً ما قد اقرأ هذه واحدثها لأثبت مرحلة جديدة من تلك الحدود والعلاقات بين الناس والقوانين العرفية في الشارع. أيضاً، من أسباب كتابتي هذه هي أننا نعيش مع الكثير من القضايا التي لا نلتفت لها ونجدها من المسلمات لكثرة رؤيتنا لها، لكنها في الحقيقة غريبة جداً وتمثل قواعد فريدة لعالمنا.