التصنيفات
الحقبة العثمانية تاريخ الاسلام تاريخ التصوف عام

خارطة وخلاصة وملاحظات حول كتاب تكايا بغداد في العهد العثماني

وأخيراً عثرت على جانب حي في الحقبة العثمانية، شيء يمكن إيجاد سنوات انشاءه طيلة القرون التي تغطيها ذاكرة ومخطوطات لا تتعدى الـ 400 عام. التكايا رغم ذلك ليست مثالاً جيداً للمنشآت الحيوية التي ننشد ظهورها وازدهارها ففي معظم الأحيان هي ليست سوى جزء باهت سلبي من الحياة في المدينة. بناء التكية بسيط جداً يفترض أن تضم بيتاً للشيخ المشرف عليها وغرف لاقامة المريدين، وان تضم باحة للاجتماع او لإقامة حلقة الذكر. إن التكية ورغم أنها قد تأتي بعلماء او كتاب فهي لا يفترض بها أن تخرج أحداً وهي ليست مكان للدراسة وهي أيضاً ليست مكاناً عاماً للعبادة بل يمكن وصف نموذج المجتمع الذي يحتوي على التكية بأنه مجتمع يخول غيره بالعبادة مقابل المال. فيأتي الأغنياء ويفتتحون التكايا أو يوقفون أموالهم فيها وفي التكايا يوجد من وظيفته هي العبادة. سأكمل سرد ملاحظاتي ومن ثم أوضح واقع التكايا في بغداد ولن يتفق الكاتب ميعاد شرف الدين الجيلاني مع ما أكتبه بالتأكيد فهو يحاول أن يبث في التكية كل ما هو إيجابي بكتابه تاريخ تكايا بغداد والمشيخة الصوفية في العهد العثماني.

بهذا النمط من التمويل نالت أقوى طريقتين في بغداد العثمانية وهما الرفاعية والقادرية تمويلهما واستقلاليتهما لفترة طويلة من الزمن وحتى يومنا هذا. وقفيات التكية هي جزء لا يتجزء منها حتى ولو كانت عقاراً صغيراً او ساقية أو نهر أو بستان صغير أو دكان. المهم أن هناك ما يعود على التكية بالمال ويعيل المريدين الساكنين فيها. هذا هو مفهوم التكية الشائع في بغداد والذي يختلف عن مفهوم التكية في تركيا.

رابط الخارطة

قدسية التكية بالمقابل أقل من المسجد فكم من تكايا تهدم بسهولة دون أن يكون هناك قضية اجتماعية ضد الهدم. لكن الأكثر شيوعاً هو ظاهرة تحول التكية الى مسجد لاسيما في الفترة ما بعد الاحتلال الإنجليزي والتي لم تعد الحكومة فيها تفضل التكايا فاختفت هي واوقافها. ظاهرة ابتلاع التكية للمسجد كانت هي السائدة بالمقابل في فترات أقدم، فكم من مسجد يتحول الى تكية ويفقد دوره كمكان لأداء الصلاة لعامة الناس ويصبح مسكناً لمجموعة من الدراويش وشيخهم فقط. هكذا قرأت في الكتاب حالات متباينة بين تكايا تتحول الى مساجد وبين العكس وكله يعتمد على الحقبة ولا يذكر الكاتب ذلك غير أنه يسمي التكية باسم مسجد أو يذكر مسجد حديث يقول أنه كان فيه تكية. أيضاً فإن توجهات التكايا قد تتغير بمرور الزمن وفي تكايا عديدة فإن المؤلف لم يذكر الطريقة التي تنتمي او التي كانت تنتمي لها مشيخة التكية.

على الخط الزمني ليس هناك حقبة عثمانية كانت فيها التكايا أكثر من حقبة أخرى بشكل واضح، بل لطالما كانت موجودة. وقبل الفترة العثمانية كانت التكايا حاضرة أيضاً لكن لا تدوين حول ذلك. يبدو واضحاً أيضاً أن مفهوم التكية بشكله السلبي الحديث كان مختلفاً في الماضي فقد كان لها في منتصف العصر العباسي دور آخر يتمثل بالمدرسة والمسجد وهي أدوار أكثر إيجابية وتتضمن مساهمة اجتماعية أكبر. ومن ثم نجد في نهاية العهد العباسي أن مفهوم الرباط صار مقترناً بالتكية والمستمد من المفهوم الدفاعي حيث كان المتواجدون في الرباط (على الأقل في فترة ظهور التسمية) يجمعون الزهد والعبادة من جهة والدور الدفاعي عن الدولة من جهة أخرى. نجد مثلا رباط الشونيزي في مقبرة الكرخ، ورباط الروم في الاعظمية رغم أن هذه الأماكن لا تنفع للدفاع بالضرورة لكن ربما كانت تلك المرحلة المبكرة للدور السلبي للتكية والذي تعاظم لاحقاً فبدأت التكايا بابتلاع المساجد.

في الفترة الجلائرية التي شهدت تعميراً لا نذكر أن عباس العزاوي كتب أنه كان هناك توجه فريد نحو بناء الربط او التكايا. مع ذلك، فقد برزت القلندرية الى جانب القادرية كطريقة صوفية قريبة للمفهوم الحديث في العهد العثماني. وكان جامع الاصفية (الاصفية مجرد تسمية حديثة اطلقها داوود باشا) هو التكية القلندرية.

نعود الى الجانب الهام في النظر الى التكايا وهو التركيز على ما يتم بناؤه وأين. حيث يشير ذلك الى طبيعة الأماكن المأهولة أو الحيوية في المدينة في الحقبة التي تمتد الى منتصف القرن التاسع عشر. يمتد الجانب المأهول من بغداد من باب المعظم في موقع يمتد من بيت الحكمة الحالي الى جسر باب المعظم وهذا كان يعرف بالقلعة الداخلية؛ ومن ثم يمر بالمستنصرية وهذه كلها أماكن مأهولة ومن ثم رأس القرية، وبعدها المربعة حيث يمر جسر الاحرار وتنتهي الى ما قبل جسر السنك. أي باختصار، من باب المعظم الى جسر السنك. أما امتدادها نحو الشرق فهي تنتهي قبل شارع الخلفاء فما يقع قرب الباب الشرقي ليس مأهولاً أو ليس مأهولاً بكثافة. وكذلك الحال لما بعد شارع الخلفاء حيث كان أماكن خربة ومزابل. لكن في الفترة الجلائرية كان هناك امتداد يصل الى قنبر علي. هذه هي بغداد وفي هذه المساحة فقط وما بقى داخل الاسوار فمعظمه خرائب وأماكن خالية نستثني منه محلة باب الشيخ والتي تمتد من مسافة بعد باب الطلسم بقليل وتمتد حتى تكاد تكون جسراً من المناطق المأهولة الذي يمتد عبر الخلاني ويتصل بالمربعة.

اما الكرخ فالمنطقة الأكثر حيوية منه هي محلة خضر الياس ويمتد الكرخ منها جنوباً الى ما بعد جسر الشهداء، لكنه عموماً أصغر وأقل أهمية من الرصافة.

لا يعني ذلك أن كل ما سوى ذلك ببغداد هو فراغ، لكنه ليس جزءاً حيوياً وليس في المدينة كثافة سكانية عالية تملأ جميع تلك المساحة.

على سبيل المثال فإن تكية نعمان القادري والتي تسمى أيضاً تكية مسجد الحاج فتحي التي ازيحت لاحقاً عندما تم مد شارع الخلفاء كانت قد أنشأت في العام 1755م في موقع يقع بالضبط على شارع الخلفاء اليوم. لكنها أنشأت على ارض مهجورة ولاحقاً صار حولها محلة حملت اسم الشيخ فتحي لأنه اول من سكن فيها. محلة التوراة التي تقع بين قنبر علي وبين الأجزاء الحيوية تقع في موقع هامشي يقع في طرف المدينة وكذلك عكد النصارى.

تكية الشيخ عمر السهروردي تقع في ارض خالية وفي حقب معينة كان هناك بستان. التكية التي أنشأت فقط بمسافة قصيرة من الشيخ عبد القادر باتجاه باب الطلسم عام 1726م سميت تكية راس الچول فكأنها تستقبل الأرض الخالية لذا سميت بهذا الاسم. ليس هناك أي تكية مبنية طيلة شارع الشيخ عمر، منطقة الفضل لا وجود لها الا بعد الطاعون واستيطان قبيلة العزة وعرب آخرين هناك، الشورجة ليست مكاناً مهماً او كثيفاً. تتمحور بغداد باختصار حول نهر دجلة وتقع مراكزها الحيوية هناك.

وحول طرق الغلاة التركية لاسيما البكتاشية والمولوية يدخل الكاتب بنقاش مع عباس العزاوي، حيث يرى عباس العزاوي أن العرب لم يتقبلوا الطريقة المولوية والبكتاشية. ويرد صاحب الكتاب بأنه للطريقة اتباع من العرب في الشام ومصر وفي العراق لدينا الشيخ عثمان الموصلي على سبيل المثال، وأيضاً كان هناك شيخ للطريقة في العراق معروف بالشيخ عبد الله المولوي عاش حتى عام 1992. وانا اضيف احتمالاً وهو أن الطريقة قد تكون نخبوية. فمؤسس التكية في العراق كان رجل دولة وله نفوذ وتأثير وكانت مع البكتاشية أماكن يرتادها الضباط وكبار المسؤولين فما الذي سيفعله البغداديون معهم؟

يتوزع هؤلاء في بضعة أماكن احتلوها مع مجيء العثمانيين وتعد أماكن استراتيجية، فالمولوية أخذوا جامع الآصفية، والبكتاشية أخذوا رباط الخليفة الناصر لدين الله وهو في الحقيقة كان تكية أيضاً وقد سميت اثناء وجودهم فيها بتكية الخضر. وبعد منع الطرق صارت هذه التكية مقام الخضر وعاد جامع الاصفية مسجداً (وهكذا سماه داوود باشا حيث كان يلقبه الناس بآصف الزمان وآصف هو خادم النبي داوود واخذ ذلك من كون اسمه داوود) واليوم اخذه الشيعة وقالوا انه مرقد الكليني. وقد كان المسجد كما اسلفنا تكية للقلندرية بعد أن كان دار القرآن في نهاية العصر العباسي.

الملاحظة الأخرى المهمة حول الأوقاف هي أن معظم الأوقاف من البساتين تقع في ديالى وكثير منها في مندلي، وهناك بعض البساتين والسواقي التي وقفت للتكايا وتقع داخل حدود بغداد. البساتين داخل بغداد ظاهرة حية نذكر منها تكية الشيخ فتحي التي أنشئت على فضلة بستان يقع على شارع الخلفاء ونذكر ايضاً بستان الظفرية قرب الباب الوسطاني وبستان البكري في محلة باب الشيخ وبستان السرداحية الممتد من السنك الى الباب الشرقي.

ولا انسى أن اذكر أن أهم موقعين صوفيين هما جامع الشيخ عبد القادر بكل ملحقاته وجامع السيد سلطان علي والذي كان مركزاً للرفاعية.

جذبتني تسمية تكية أبو خمرة الهندي. كانت اول مرة اسمع بأبو خمرة عندما أخبرني صديق جميلي أن والدته وخالته ارادتا اخذه لأبو خمرة لأنه تأخر بالكلام أو لسبب ما ويبدو أن أبو خمرة تحول لاحقاً الى ساحر. لكن بحسب الكاتب فإن أبو خمرة الهندي لم يكن هندياً بل كان يتكلم الهندية لانه خالط الهنود وهو من كبار بني حرب الذين تم تهجيرهم من قبل شريف مكة واعطاهم داوود باشا الأمان واللجوء وسكنوا قرب الحضرة القادرية وانشأوا تكية. وقد يكون أبو خمرة من الخمار الذي يضعه كونه عربياً في صنعة لم يكن العرب معروفون فيها. ما جذبني هو أن هناك عدة تكايا وأماكن أخرى تسمى بهذا الاسم، يبدو أنه أصبح ماركة تجارية ولعله بدء بالدجل والخزعبلات منذ وقت مبكر. وهنا نطرح سؤالاً حول دور التكايا في الدجل والشعوذة، بالتأكيد لن نجد إجابة في هذا الكتاب.

بعض التكايا رغم أنها لم تكن للغلاة في الفترة العثمانية غير أن أسماءها توحي بأن مؤسسيها من الكاكائية على الأقل، مثلاً تكية بابا گرگر وهو نفسه الذي تحمل آبار النفط اسمه وهو زاهد كردي ومن المعروف أن لقب باوه دليل على أنه كاكائي. التكية ذاتها كانت في القلعة الداخلية وكانت بكتشاية. جامع الحيدرخانه ذاته كان تكية يقال لها تكية بابا فخرو ولي.

الانقلاب العثماني على الغلاة يبدو واضحاً في خارطة التكايا اذ اختفت تكاياهم من بغداد، وظهرت بعد فترة النقشبندية على الساحة والتي من الواضح أنها كانت حاصلة على دعم فحصل الشيخ خالد النقشبندي على جامع الاحسائي المطل على النهر وجعله التكية الخالدية، وهكذا تظهر عدة تكايا نقشبندية لاحقاً في نهاية القرن التاسع عشر. اما التكايا التي أسسها شيوخ عرب مثل بيت الشيخ قمر بالفضل فقد بدأت في القرن العشرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *