التصنيفات
ايرلندا

الندى الضبابي (the foggy dew) حيث يختزل التاريخ بسردية الاغنية الجميلة

تكاد تمر سنتان منذ أن تعرفت على أغنية الندى الضبابي (the foggy dew) بصوت المغني الايرلندي التراثي تومي ماكيم (Tommy Makem)، حيث لم أكن التفت للكلمات أو اركز فيها وانا اعاني من صعوبة في فهم كلمات الأغاني بشكل عام، لكنها كانت تتناسب مع صباحات باردة انطلق فيها من ناحية رويستن في شمالي مقاطعة هرتفوردشاير بالقطار ومن ثم اقود الدراجة داخل مدينة كامبرج. لكن ومن عجائب الانترنت هو كيفية التنقل بطريقة متشابكة بين المقالات للوصول معلومات جديدة وربطها بما نعرف من معلومات. عدت بعد حين لأجد الكثير من التفاصيل التاريخية المبطنة في هذه الأغنية.

من مقال السياسي والرئيس الايرلندي ايمون دي فاليرا الى مقال حول احد زملاء الكفاح لدي فاليرا ورئيس أول حكومة ايرلندية مستقلة كاثال بروها (Cathal Brugha) الذي عرفت أنه ذكر في هذه الأغنية لأغوص بها من جديد. ترجمة كلمات الأغنية كما يلي:

أسفل الجدول، وفي أحد صباحات الفصح، غدوت الى المدينة هناك مرت بجانبي سرايا رجالٌ يسيرون بخطوط مسلحة لا ناي عزف ولا طبل ضرب بل كان الصوت من وشم رهيب وجرس صلاة التبشير قد دق فوق نهر ليفي الانيق عبر الندى الضبابي أعلى مدينة دبلن علقوا راية الحرب بفخر الموت تحت السماء الأيرلندية خيرٌ من الموت في سوفلا او سد البحر من هضاب ميث الملكية جاء الرجال الاشداء مسرعون فيما ابحر هون بريطانيا مع بنادقهم طويلة المدى عبر الندى الضبابي أمرت بريطانيا أن يذهب اوزنا البري لتتحرر الأمم الصغيرة لكن قبورهم الوحيدة تضربها أمواج سوفلا أو عند شواطئ بحر الشمال العظيم ومن ماتوا مع بيرس او قاتلوا مع كاثال بروها أسماؤهم ستبقى حيث ينام الفينيون بكفن الندى الضبابي لكن الاشجع سقطوا وجرس القداس رن حزناً عليهم بوضوح والعالم نظر وذهل من أولئك الرجال الشجعان ولكن قلة.. من تحملوا القتال لكي يسطع ضوء الحرية خلال الندى الضبابيAs down the glen one Easter morn to a city fair rode I There Armed lines of marching men in squadrons passed me by No fife did hum nor battle drum did sound it’s dread tattoo But the Angelus bell o’er the Liffey swell rang out through the foggy dew Right proudly high over Dublin Town they hung out the flag of war ‘Twas better to die ‘neath an Irish sky than at Sulva or Sud El Bar And from the plains of Royal Meath strong men came hurrying through While Britannia’s Huns, with their long range guns sailed in through the foggy dew ‘Twas Britannia bade our Wild Geese go that small nations might be free But their lonely graves are by Sulva’s waves or the shore of the Great North Sea Oh, had they died by Pearse’s side or fought with Cathal Brugha Their names we will keep where the fenians sleep ‘neath the shroud of the foggy dew But the bravest fell, and the requiem bell rang mournfully and clear For those who died that Eastertide in the springing of the year And the world did gaze, in deep amaze, at those fearless men, but few Who bore the fight that freedom’s light might shine through the foggy dew

في البدء، فإن الاغنية تحمل ذلك الطابع الحزين والتأبيني مفتتحة بعيد الفصح في الإشارة الى اعدام البريطانيين لباتريك بيرس قائد المقاومة و 14 قيادي آخر معه استسلموا بعد حراك ثوري فاشل في بداية عيد الفصح عام 1916. البريطانيون يتم تصويرهم كأنهم اقوام الهون الذين اسقطوا الدولة الرومانية. لنفس الحراك تشير الابيات الأولى في الاغنية والمقطع الأول منها والذي يتحدث عن جموع هؤلاء الثوار وعن راية الحرب في دبلن معززاً ذلك بأجراس الكنيسة. غير أن الصورة غير دقيقة تماماً هنا، فالكنيسة لم تكن مؤيدة للتصعيد والثورة في عيد الفصح عام 1916[1] كما أنها لم تكن على وئام مع الأخوية الجمهورية الايرلندية (سلف الجيش الجمهوري الايرلندي والناشطة في حينها في المقاومة ضد الانجليز).

ليس مؤكداً أن للوشوم رمزية خاصة لدى الثوار الايرلنديين في حينها، أي لا يبدو على الأقل من اطلاعي أن هناك وشم معين خاص بهم. لكن يبدو من الكلمات أن الوشم قد حل محل الناي وطبل الحرب بالإضافة الى أجراس الكنيسة.

المحور الآخر يتمركز حول مشاركة الأيرلنديين في معركة چناق قلعة في غرب تركيا الحالية، في تلك المعركة الشهيرة استعان البريطانيون بالجند من مختلف بقاع الإمبراطورية البريطانية وأعضاء الكومنوولث فعرفت مشاركة الاستراليين والكنديين من نيوفاوندلاند والنيوزلنديين وأيضاً الأيرلنديين. يقال إن 3000 إيرلندي مات هناك وأن معظم القوة البريطانية البالغة قرابة 27 الفاً قد ابيدت، أي أن تعداد الأيرلنديين قد يتراوح بين 3500 الى 4000 في تلك الحملة. دوافع الأيرلنديين للمساهمة كانت بدافع اقتصادي بالدرجة الأساس، أي للحصول على راتب. وللبعض كان الأمر يعني المغامرة والتدرب على السلاح مثلما حدث مع بعض من اصبحوا لاحقاً قادة للجيش الجمهوري الايرلندي.[2] من المثير للاهتمام أن تلك الأرض الساحلية كانت ملتقى طاحن لشعوب مختلفة، فقد سمعت عن أحد الأقارب الأبعدين أنه قاتل في جناق قلعة ولعله عاش ليروي ذلك. ولعل الجامع بين العرب والايرلنديين الذين شاركوا هو أن كلاهما لا ناقة له ولا جمل في تلك المعركة.

الأخوية الجمهورية الايرلندية لم تترك ذلك الحدث يمر مرور الكرام، بل استفادت منه في التعبئة جماهيرياً وللترويج عبر أغاني مثل هذه الاغنية ووسائل أخرى إلى أن الموت في خدمة القضية الايرلندية (تحت السماء الايرلندية) فيه الشرف، بخلاف الموت على سواحل سوفلا في تركيا (تقع قرب جناق قلعة) أو في ناحية سد البحر (مدينة صغيرة في تركيا قرب جناق قلعة) كما مات الاوز البري (مصطلح يرمز للايرلنديين المنفيين في الماضي) هناك لتصديق ادعاءات بريطانية بأنهم سيموتون لتتحرر الأمم الصغيرة، فهو يقول لهم أليس من الاجدر أن تتحرر أمتكم الصغيرة أولاً من البريطانيين قبل أن تموتوا في سبيل ادعاءات البريطانيين هذه؟

تسمية الفينيين (Fenian) مشتقة من الشباب المقاتلين فيانا (Fianna)  في الاساطير الايرلندية القديمة، وهي تشير الى أعضاء الأخوية الجمهورية الايرلندية والمقطع الأخير من الاغنية يمجد قتلاهم الذين سقطوا طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى قيام الجيش الجمهوري الايرلندي لاحقاً كبديل ووريث لهذه الأخوية. يقال أن فرقة دبلنرز (Dubliners) الايرلندية الأشهر ربما لم تغن هذا المقطع حفاظاً على شعبيتها في أماكن أخرى خارج ايرلندا. ومرة أخرى يقحم جرس القداس الكنسي في نعي شهداء منظمة لم تكن الكنيسة تعتد بها.

تجدر الإشارة الى أنه ورغم كل الزينة والجمال المحيط بالروح الثورية الايرلندية وبالمقاومة الايرلندية ورغم وجود مظالم حقيقية سابقة من الانجليز بحق الايرلنديين، غير أنه من الضروري أن نعرف أن صوت المقاومة هذا يكاد يختزل التاريخ الايرلندي ويغطي على أي صوت آخر. ربما لا يعلم الكثيرون أن حوالي 10% من سكان ايرلندا كانوا من مؤيدي الاتحاد مع بريطانيا، وكما هو الحال مع وجود الكثيرين من مؤيدي الاتحاد في اسكتلندا فإن الامر ذاته كان موجوداً في ايرلندا ولا أعني بهذا الشمالية بل الجنوبية. علينا أيضاً أن نعرف أن الوقت الأكثر ظلاماً في تعامل الانجليز مع الأيرلنديين كان قد انقضى قبل عصر المقاومة هذا بزمن بعيد. وكسائر حركات المقاومة، فإن المقاومة الايرلندية ارتكبت اخطاءاً وجرائم أودت بحياة أبرياء سذج انتموا اليها او أبرياء لم يؤيدوها. لكن في النهاية، هذا تقريباً هو الصوت الايرلندي الشائع او الذي يعرفه الجميع، بفضل أغان كهذه اختزل التاريخ الايرلندي بالنسبة لكثيرين بهذه السردية فقط مثلما اختزلت المقاومة سرديات تاريخ شعوب أخرى كثيرة قد نستمع لهذا السردية لكن علينا أن نعلم أنها ليست الوحيدة، على الأقل بالنسبة لصديق ايرلندي مستنير شرح لي ذلك.


[1] How the Catholic church misjudged the Easter Rising

[2] Ireland and World War One

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *