احدى أكثر الرحلات تميزاً وكذلك مصدر مهم جداً لحقبة قليلة التدوين في تاريخ العراق الحديث. نيبور رجل متخصص مبعوث ضمن بعثة متخصصة لدراسة المنطقة وان كان آخر من بقي من تلك البعثة والناجي الوحيد منها. كثير من الملاحظات المذكورة لم يكن بالإمكان حتى أن نضعها على مقارنة مع ما دونه رحالة آخرون لشدة ودقة التفاصيل والتي قدمت تغطية جيدة لحقبة منتصف القرن الثامن عشر. سأقسم المواضيع بحسب ترتيب قرائتي لها وتوقفي عند اجزاءها.
الرمادي في الخارطة غير معروف المذهب، الأصفر شيعة، الأزرق الداكن سنة، الأحمر مسيحيين، الأصفر الداكن مختلط سنة وشيعة، البني يزيدية. كثير من الاماكن لم يزرها نيبور بل سمع بها فقط لذا ذكر مذهبها. هناك خارطة للزراعة أيضاً، للتفاصيل اذهب الى رابط الخارطة.
البصرة
البصرة وفق وصف نيبور هي أقذر مدينة اسلامية رآها. التجارة كانت متردية في حينها ويذكر نيبور أن البصرة فيها 70 محلة كثير منها بساتين ومنها محلات تتضمن مقابر فقط مع بضعة دور، تقدير نيبور ان المدينة لا تتعدى 40 الفا. لو قارننا ذلك بأرقام أخرى من آغا محمد المنشي البغدادي وهيود فإن الرقم يبدو منطقياً إذ يتكلم هؤلاء عن حوالي 80 الف نسمة بعد 50 سنة من هذا التاريخ لكن مع الأخذ بنظر الاعتبار هو التفاوت الدائم في وصف من هم سكان المدينة ومن هم البدو والقبائل المحيطة بالمدينة.
بحسب نيبور فإن المذهب السني هو الشائع في البصرة وأن الوجود السني في الزبير قد ازداد بعد طرد عشائر معينة من جزيرة العرب على يد محمد بن عبدالوهاب. كما يذكر أن هناك شيعة قادمون من ايران كثيرا ما يتظاهرون بالتسنن. وأن هناك ارمن هاربون من ايران ايضا. وهناك 100 عائلة من اليهود اي بضعة مئات من الافراد وهناك الكثير من الهنود (البهاتيا) الذين يسميهم البانيان. كما ان هناك فئات اوربية من دول عدة متواجدون لاغراض التجارة منهم الايطاليون والانجليز والبرتغاليون.
زراعة الرز والنخيل تقع خارج اسوار البصرة مباشرة حيث تعيش اعداد من العرب لكن هؤلاء ولقلة عددهم، ليسوا قادرين على حفر وصيانة الجداول مما يبقي الزراعة ضعيفة. بين البصرة والزبير هناك ممالح. والى الجنوب الغربي يذكر قرية كبيرة اندثرت وقد كانت حية حتى قبل اربعين او خمسين سنة. هذه القرى والمدن البائدة هي جزء لا يتجزء من المشهد العراقي في قرونه الأخيرة على الأقل ولطالما يتكرر ذكرها في كتب ورحلات عديدة.
تقع الزبير خارج البصرة وليس لها سور ويرى نيبور أن البصرة القديمة كانت تقع بمحل الزبير. وقد اوضحنا أن تعداد الزبير قد ازداد بفعل العشائر التي طردت من جزيرة العرب وزاد بذلك تعداد السنة أيضاً. وشهد نيبور أن قبور طلحة والزبير كانت قد خربت على ايدي الإيرانيين في غزوة نادر شاه، رغم تسنن الأخير.
كانت غزوة نادر شاه للبصرة قد حدثت في وقت قريب وكان المتداول في حينها بين البغداديين ان محاصرة البصرة في عهد نادر شاه وفي عهد سليمان باشا كانت لعبة بين والي بغداد وايران لغرض ابقاء الوالي وتزويده بالمدافع من إسطنبول وهو لمصلحة كل من الوالي ونادر شاه بحسب ما يرى الناس في حينها أو لعل ذلك الرأي سائد في دوائر القرار في بغداد.
سليمان الكعبي المعتدي على البصرة
اول ملاحظة عن بني كعب وامارتهم هي انهم قبيلة تعيش في مدن وقرى لا في خيم ووضع بدوي متنقل. الشيخ سليمان الكعبي كان هو امير الاحواز في حينها وكان شبه مستقل حيث كان ولاءه غير محسوم للأتراك او لكريم خان فلم يكن يؤدي الضرائب لأي من الاثنين متذرعا بان الطرف الاخر يأخذ الضريبة منه، غير ان عائديته اكثر لايران. ونشير الى ان ذلك الحال يشبه هذا واقع امارة بابان. وأن الضعف في حكومتي ايران والعراق فضلاً عن عدم أهمية المناطق هذه أو ارتفاع كلفة فرض السيادة فيها مقابل مردودها يبقيانها بهذا الحال.
وقد ضم سليمان الكعبي مناطق كثيرة له مما كان تابعا للبصرة. ويرجح نيبور ايضا ان الشيخ سليمان كان يدفع الاموال لشيوخ عشائر اخرى ليثيروا الشغب تجاه العثمانيين او الايرانيين فيوطد موقعه بذلك. وكان يتخذ من قبان عاصمة له. حاولت أن أجد موقع قبان فلم أفلح لكن وجدت باحثاً قد عين موقعها وهي تقع مقابل الفلاحية بالضبط على الضفة الأخرى من الجدول المسمى اليوم جدول شادگان وله اسم محلي عربي بلا شك لكن لا اعرفه.
في محاولة لاعادة بسط السيادة على الاحواز غزى كريم خان الاحواز، فهرب سليمان الكعبي الى البصرة ليكون وبالاً وشراً على المدينة وفاتحة لأحداث كثيرة سنأتي له، لكن وبعد مغامراته هذه وهروبه فقد تم العفو عنه وحافظ على ملكه في الاحواز.
هرب سليمان الكعبي الى جوار البصرة مع عشيرته وقواته لكنه لم يكن لاجئا تقليديا. بل كانت له نوايا للنهب. كان موعد جني التمر قد حان وكان لسليمان النية في سرقة تمور البصرة بينما كان يحيط بريفها. شعر متسلم البصرة بعدم الارتياح وحشد ما استطاع من قوة لضرب سليمان وارجاعه لإيران واستأجر سفينتين تجاريتين انجليزيتين للمساعدة في الحملة. ولسوء الحظ فان الحملة انتهت بأزمة رهائن حيث حجز سليمان السفينتين واسر طاقم السفينة الانجليزي واتخذهم رهائن وصارت الوساطات تتواصل من اجل إطلاق سراح هؤلاء. وقد تم اخلاءهم بعد عدة اسابيع مع حبس السفينتين رغم الاتفاق على الهدنة ودفع مبلغ للبصرة. لكن السفن بقيت وسبب ذلك ازمة في الملاحة حيث منع الخوف من الاوضاع السفن القادمة من الهند من الدخول الى شط العرب من الخليج وسبب ذلك ازمة اضافية لحكومة البصرة في الوقت الذي لم يزل فيه سليمان في موضعه فضلاً عن الازمة التي يتسبب بها في عرقلته جني التمر.
من جانب اخر فقد حدثت اشتباكات بسيطة بين بني كعب والمنتفق بقيادة الشيخ عبد الله في أطراف البصرة. لعب الشيخ عبد الله هنا دور المنقذ لأهل البصرة وكان مع بني قبيلته يبثون هذه الصورة لأهل المدينة في وقت كانوا فيه يقتسمون سرقة محصول التمور من بساتين البصرة التي كان يعسكر فيها ويقطف تمور شمالها الشيخ سليمان الكعبي ومن الجنوب الشيخ عبد الله والمنتفق. في احدى المرات جاء المنتفق برؤوس مقطوعة للبصرة زاعمين انها من مواجهاتهم مع سليمان الكعبي وفي الحقيقة عرف اهل البصرة لاحقاً أن هذه الرؤوس لم تكن سوى لفلاحين متوفين حديثاً. في تلك السنة لم ينل البصريون من التمور الا الشيء اليسير بينما سرقت التمور من قبل بني كعب والمنتفق. ولم تسعفهم الدولة ولم تمتلك القوة لردع سليمان الكعبي.
استمرت ازمة السفينة المختطفة والرهائن وصار والي بغداد يتدخل مرسلا الهدايا والوفود ويتعامل معه سليمان بندية وبذل كما يرى نيبور لشخص مثل والي بغداد يحكم ارض تزيد مساحتها على البعض من البلاد الاوربية.
إن هذا التخريب الذي يحدثه قادة العشائر سواء مثل سليمان الكعبي او من الزعماء المحليين الأكراد يحدث بشكل متواتر وبأحداث صغيرة مثل هذه لكنه لا يظهر عادة في التاريخ ولا يسجل في سياق المشاكل التاريخية بين العراق وايران ربما للدور الذي يراد تصوير الاحواز به، وللأمانة فإنه رغم وجود غزوات إيرانية كبيرة فإن الحكومة بشكل عام اكثر انضباطاً ولا يصدر منها ما صدر من سليمان الكعبي تجاه أهل البصرة في ذلك العام. ومن الواضح أيضاً أن سليمان في نهاية الأمر يتبع لإيران ورغم كل التدوينات التاريخية التي توضح لنا شكل هذه الإمارات فإن هذا الأمر أيضاً يتم التسويق له بطريقة مغايرة اليوم.
طريق البصرة بغداد
يقول نيبور أن قادة القوافل من العرب أفضل واوثق من الترك الذين يتولون قيادة قوافل رسمية مثل قافلة الحج او قوافل الزوار الايرانيين الى الشام. هؤلاء يدفعون للباشا مقابل قيادة القافلة ويصبح الامر مزادا بينهم وأحيانا يتفقون مع العرب ليسلب العرب قافلتهم.
استوقفني هنا موضوع زيارة الإيرانيين الى الشام، فنحن نعلم أن مزار السيدة زينب في الشام ليست له قيمة دينية بقدر اضرحة الائمة، هل الموضوع يتعلق بالأهمية التجارية لتلك الرحلة؟ لا اود الاسهاب بالتعقيب لكن لعل التحقق منه يصبح ممكناً في مصادر أخرى قادمة. تجدر الإشارة أن كتاب الشيعة في لبنان قد أشار الى منع هذه الزيارة الى الشام في فترات سابقة.
جزء مهم من الرحلة هو مفاوضة اللصوص العرب والدفع لهم في كل مرة، والغريب انهم كانوا يأخذون مذهب اكبر من الشيعة ويسيئون معاملتهم مما يدل على شيوع التسنن بين الاعراب آنذاك وأنهم رغم جهلهم التام بالدين فإن لديهم تلك النزعة الطائفية التي يميزون فيها السني من الشيعي فينال الثاني قسطاً من الإهانة فضلاً عن تسليب الاثنين سوية.
الطريق هذا لم يكن آمناً حتى في عهد احمد باشا وسليمان باشا أبو ليلة، ولم يكن من الممكن السفر بأمان في جنوب العراق أما ما يفعله الباشا من حملات ضد العشائر فهي تشبه حملات الصيد التي يقوم بها والغرض الرئيسي منها هو الضريبة، أو السلب مرة أخرى من العشائر. سلوك العثمانيين مع هذه العشائر لم يكن سلوكاً هادفاً لارساء الأمان او لوضع خطة معينة كما لم يكن عادلاً، الهدف هو هدف مالي قصير الأمد فحسب، ومن الأمثلة على عدم عدالة تلك السياسة هي حادثة الشيخ سعدون شيخ المنتفق الذي اعتقله سليمان باشا (عندما كان كهية)، ثم اعدمه، فجاء 18 شيخاً قد سلموا انفسهم وعرضوا السلم وأظهروا حسن النية كيلا يحيق بهم نفس المصير فأعدمهم سليمان جميعاً في حادثة ظل العرب يذكرونها ويعتبرونها صنفاً من الغدر فيما ظل البغداديون يحتفون بها ويؤلفون الأغاني التي تنشد حولها في المقاهي.
من المشاهدات في طريق بغداد البصرة أن احد التجار كان يستخدم الحمام الزاجل لابلاغ أهله أنه وصل بسلام، حيث من المعروف أن الحمام يعود لداره فيمكن للتاجر أن يأخذ الحمام معه ثم حين يصل يطلقه فيعود الحمام الى بغداد او الى البصرة حيث إقامة التاجر فيبلغهم بوصوله.
في أدنى ذلك الهرم الغذائي في جنوب العراق، وبين ثنايا تلك الصور القاتمة من السلب المتبادل وانعدام الأمان كان يتراءى لنا من المصادر المختلفة أن الزراعة كانت منعدمة في جنوب العراق، لكن نيبور يذكر أن هناك فلاحون في مناطق العشائر وهؤلاء يؤدون الضريبة لشيوخ العشائر لا للدولة وهم مستضعفون جداً وأحكام الشيوخ عليهم قاسية جداً.
يقسم العرب بشكل عام في ذلك الوقت الى عربي حضري مثل بني كعب والعرب الساكنين على اطراف شط العرب (او بعضاً الفلاحين الذين ذكرهم نيبور) والذين لهم نمط حياة ثابت في قرى وبلدات صغيرة. وهناك البدوي او اهل البر مثل المنتفق، وايضاً هناك المعدان وهم مربي الجاموس وهم ايضا متنقلون.
مدن الفرات من القرنة وحتى الرماحية
كوت المنتفق التي تسمى كوت معمر أيضا هي نقطة تجمع المنتفق وهي أول نقطة يذكرها بعد البصرة، ويمر في كوت المنتفق نهر نشط تجاريا اسمه نهر عنتر وفيه موظفي كمارك تابعين للبصرة، ويفترض أن نهر عنتر اليوم قريب من قضاء المدينة التابع للبصرة، فربما كانت كوت المنتفق تقع بنقطة ما هناك أو بين قضاء المدينة وموقع الناصرية الحالي. الجمرك في هذه النقطة يمكن دفعه في القرنة أيضاً وإظهار الوصل فقط لاحقاً. المنصورية ترد في الخارطة لكنه لم يصفها بل مروا بجانبها بالقارب فقط.
بعد كوت المنتفق تأتي العرجة، والتي يفترض أنها تقع بمكان ما بين كوت المنتفق وبين السماوة وفيها ال صالح الذين يصفهم بأنهم من أشرف عائلات المنتفق وكانوا موظفي جمارك في العرجة لكن لاحقا الغيت النقطة وحولت الى السماوة حيث كان يجبيها الخزاعل لأنفسهم.
دفع نيبور للدولة لكن الشيوخ في السماوة طلبوا منه الدفع ايضا ويقول لأنه مسيحي واجنبي فقط استشاطوا غضبا لأنه ناقشهم واظهر فرمان للسلطان حول الجمرك ويقول انهم يسخرون من المسيحي ويرفضون مناقشته. والراجح أن أي شخص عراقي ما كان ليناقش الشيوخ وكان سينفذ مباشرة ويدفع لكن نيبور تعرض لغضبهم لأنه ناقشهم لا لأنه مسيحي.
رغم رداءة البيوت في السماوة وهي مبنية من الطين، غير انها افضل بكثير من بيوت الفلاحين في القرى المجاورة. يتكلم نيبور هنا عن ظلم الشيوخ وطغيانهم على الناس واستئثارهم بالثروة في تلك المنطقة الواقعة بين السماوة والعرجة. ويضيف من التفاصيل حول السماوة أن هناك نمور واسود وبنات اوى في محيط المدينة، كما يذكر أن سكان السماوة قد ماتوا جميعا بسبب الطاعون قبل زيارة نيبور بحقبة.
المنطقة بين السماوة والعرجة يبدو أنها تعد الأخطر فضلاً عن كونها فقيرة جداً، فالعرب هناك سباحون مهرة ولصوص يعبرون الى السفن ويسرقون ما فيها وينفذون أحياناً اعمالا أكبر مثل تسليب سفينة كاملة للتمر وتفريغ حمولتها. كما كانوا يقتلون بعض المسافرين الذين يرفضون تسليم اموالهم. وبالمقابل فحين يتمكن الركاب او الربان فهم يقتلون من الاعراب ما يستطيعون. لكن قتل الاعراب ليس سهلا، فهم يعرفون ربابنة السفن ويطلبون الدية في النهاية حتى لو كان الراكب اوروبيا اذ يلقي الربان القبض عليه خوفا من الاعراب. يهزء نيبور ببنادق الاوربيين التي يحملونها فيقول انها تلقي الرعب أكثر مما تفيد لو استخدمت بحق، فعندما يقتل اوربي اعرابيا يدار الامر وكأنه من منظور الشريعة قتل مسيحي لمسلم وتزداد الدية كثيرا (الفصل). من الغريب أن هذه المناطق وأكثر منها ما زالت تعيش بهذه القوانين حتى يومنا هذا.
كان نيبور يعبر هذه المناطق بالسفينة، لكن يبدو أنه كان يسأل الناس حول تلك التفاصيل، وقد كان في الغرفة المجاورة له بالسفينة ضابط إنكشاري مريض جداً متجه من البصرة الى بغداد وكان نيبور منزعجاً جداً منه خائفاً أن يصاب بالعدوى، لكنه مع ذلك اضطر الى لبس عمامته لإخافة الأعراب وبث الهيبة فيهم. وقد نجح ذلك فعند رؤية نيبور يعتمر العمامة الضخمة للانكشاري ابدى الأعراب الخوف والوجل واستجدوا بضع تمرات فأمر بإعطائهم.
ثم تأتي لملوم ويفترض أنها بموقع قضاء الحمزة الحالي التابع للديوانية، وتأتي بعد العرجة ويسكنها الخزاعل وشيخهم يسكن كوخ قصب سيء لا يختلف عن اكواخ الناس. ويصبح الطريق من لملوم الى الرماحية ثم الى النجف أكثر امنا بحيث يمكن السفر به براً. لم يصف نيبور لملوم لأن رفيقي نيبور كانا شخصان سنيان ولم يرغبا في النزول الى لملوم، فنزل نيبور ورفيقيه الى قرية مقابلة تدعى مشاورة كان فيها وجود سني أو ربما كانت سنية.
لاحقاً يذكر أن الديوانية موجودة وفيها نقطة حكومية ويحكمها اغا. لا أذكر لماذا دونت الملاحظة بأن تاريخ ذلك أقدم من زيارة نيبور بقليل، أي أنها موجودة منذ فترة أقدم بقليل من زيارته.
بشكل عام يذكر نيبور حول الجنوب أن هناك الكثير من القباب، والقليل من المساجد، ويقصد بذلك كثرة الأضرحة والمزارات مقابل قلة المساجد.
الرماحية
خمسة اميال ونصف من لملوم تقع الرماحية نحو الشمال الغربي. والرماحية تحت سلطة شيخ الخزاعل ايضا وهو ياخذ ضريبة من المسافرين. إن الرماحية التي فيها غالبية شيعية في حينها كانت تتكون من 400 بيت وفيها نهر يصب قرب السماوة لكنه ايل للجفاف في ذلك الحين، كما أن فيها جامع وحمام جميل جدا بحسب وصف نيبور، وبيوتها من طابوق غير مفخور. والناس فيها اغنى نسبيا إذ أن لهم بساتين ونخيل ويعملون في الزراعة.
في الواقع ورغم أهمية البصرة تجارياً وربما كانت أهم من جميع انحاء العراق الأخرى لكن شعرت أن الرماحية مكان جميل أعجب نيبور، والرماحية انقرضت بعد ذلك بفترة قصيرة اذ طغى عليها النهر ويشرح عباس العزاوي ذلك.
سكن نيبور لدى أحد السنة في الرماحية وكان ملا في المسجد، وجلس معهم بينما كانت ام زوجته تجلس خارج البيت وزوجته تحضر الطعام. تمتلك ام الزوجة البيت وبستانا للنخيل ولا يملك الرجل شيئا ويعيش عالة على نساءه الاربع اللاتي يملكن موارد تعيلهن ويتنقل بينهن. يشرح نيبور حوارات كانت تجري بينه وبين هذا الرجل وام زوجته وتدخل زوجته لاحقاً. في البدء لا اظن ان الزوجة أو أمها منتقبات أو شيء من هذا القبيل فهما متواجدتان في نفس المكان الذي تواجد فيه الضيف (أي نيبور) والأم تمتلك البيت، كما أن الرجل لا يمتلك شيئاً ويلعب دور ذكر النحل بين نساءه الأربعة. وقد ذكر نيبور لهم كيف أن عائلة المرأة تساهم مالياً في الزواج في بلاده أي المانيا والدنمارك، وهنا تدخل الرجل وقال لأم زوجته اتسمعين، لم لا تعطيني البستان والبيت اذاً، وردت عليه أم الزوجة بلطف، ثم تدخلت الزوجة في الحوار أيضاً بعد ان كان بحسب وصف نيبور تتظاهر بعدم الاهتمام بالحوار لكن من الواضح أنها تستمع بشكل جيد.
النجف وكربلاء
عندما زار نيبور النجف وكربلاء كان هناك نسبة من السنة يعيشون في المدينتين، وكانوا بحسب وصفه يعيشون بأمان أكبر من مناطق شيعية اخرى او مما في ايران. ومن ملاحظاته أن نادر شاه طلا القباب بالذهب بثمن باهض وزين السقف بشكل فني رائع، فهل كان نادر شاه أول من طلا قباب الأضرحة بالذهب؟ لا أعلم. لكن نيبور لم يجرؤ على الاقتراب ودخول المسجد خوفا من ان يجبر على دخول الإسلام، هل كان هذا وارداً أم أتى به من وحي خياله؟
يسرد نيبور من مشاهداته هناك وتحديداً في الكوفة أنه يوجد هناك عمود خشبي عريض يحكى أن الامام علي حمله بنفسه من البصرة الى الكوفة – ومن الواضح أن هذا هراء فلماذا يحمل هذه القطعة بنفسه – ويقال إن من لا يستطيع الإحاطة به فإن نسبه لأبيه مشكوك به وبطبيعة الحال فإن الامر يعتمد على طبيعة اجسام الأشخاص مثل النفق الذي يبرئ الزناة في مناطق الساحل السوري لدى العلويين. رأى نيبور كيف ان سائس الخيل بقي يحاول الإحاطة بالعمود ولفه بحيث تتصل يداه من الطرف الاخر لكنه فشل في ذلك وصار الجميع يضحكون عليه.
هناك الكثير من التفاصيل حول المراقد والاثار في النجف، ولضعفي الشديد بما يتعلق بالنجف من معلومات فلم أجد فيها مثارا للانتباه، وهي ايضا لا تعبر عن حالة او ظاهرة مثيرة للاهتمام سوى قصة العمود.
في الكفل مرقد بسيط جدا للنبي حزقيال مع مسجد وتدير المكان عائلة مسلمة. يذم نيبور اليهود بانهم جبناء ولا يردعون المسلمين الذين يتعاملون معهم بوقاحة، حتى لو بلغوا 20 ضعفهم وحتى لو ملكوا البنادق. وكان العرب يترصدون قوافلهم ويذهبون لهم في المرقد بحجة تهنئتهم وفي الحقيقة لينالوا منهم بعض الهدايا أو الأموال. وفي احيان أخرى يتم انقاذ قوافل اليهود من السلب عندما يتدخل باشا بغداد او متصرف الحلة.
كربلاء اكبر قليلا من النجف وفيها اماكن عدة مهمة كالاضرحة الرئيسية وهي محاطة ببساتين كثيفة وبينها وبين الحلة قرية الطهمازية ذات البساتين الكثيفة أيضا وما زالت الطهمازية موجودة بهذا الإسم.
أما حول مبيت الزوار فيذكر أنهم كانوا يأتون ويبيتون في المرقد.
صنف الطابوق الذي يتم به البناء، هل هو طابوق مفخور كالذي نعرفه اليوم أم غير مفخور أي طين فحسب يحدد طبيعة غنى وفقر الأماكن المختلفة التي يزورها نيبور. ومن هذا المنظور فإن بيوت كربلاء مبنية بطابوق غير مفخور، والسور هو الآخر معيار حيث لا تكاد تخلو مدينة او ناحية من سور او سياج على الأقل وفي هذه الحالة كان سور كربلاء مهدماً.
الطريق بين النجف وكربلاء غير امن، العرب يسلبون المارة وحتى خيالة باشا بغداد قاموا بتسليب جماعة ايضا واخذوا حتى بنادقهم.
الحلة
في الحلة القليل من البيوت بني بالطابوق المفخور والباقي بني بالطابوق المجفف بالشمس، ونضيف لمعايير نيبور في تقييم الأماكن نوع السلطة سواء كانت عشائرية ام حكومية وجودة او كثرة البساتين والمزارع المحيطة والامن في المنطقة والطرق المؤدية لها. الحلة في هذه الحالة تتبع للباشا وفيها متصرف عثماني.
بعد الحلة تأتي الاسكندرية والمحاويل وكلتاهما موجودتان في حينها ثم يأتي خان يسميه خان اسعد ويقول ان شخصا غنيا بناه وبنى بجانبه جسرا يصفه نيبور بالجميل وهو كان ابدى رأيه بالجسر الطافي سابقا بانه رديء (واحد فقط قرب الحلة). يمجد نيبور ذلك التاجر ويقول ان شخصا مثله كان سيحصل على اوسمة الشرف في اوروبا لكن جزاءه في العراق كان بأن اقترض منه سليمان باشا ولم يعد له المبلغ.
وقفة مع الجسور
لم أقرأ عند نيبور حديثاً عن جسر حتى وصوله الى الحلة، فلعل عبور الأنهر أسهل في مناطق أخرى في الجنوب باستخدام القوارب، كما لم اقرأ عن جسور بغداد سوى الجسر الوحيد في موضع جسر الشهداء الحالي والذي كان حتى مجيء الانجليز جسراً عائماً وهو بذلك يعتبر نوع رديء من الجسور. في الموصل أيضاً كان هناك جسر واحد عائم. بالتأكيد لا نتوقع من السلطة العثمانية أن تبني وتعمر في هذه البلاد، بل أغلب الجسور قد تأتي من مصلحة الحاكم العسكرية المؤقتة فينشأ جسراً عائماً منخفض الكلفة كالذي في الحلة، أو أن يبنيه أحد التجار. لكن عند مقارنة الأمر مع ماردين في دراسة تركية حول جسور ماردين القديمة[1] نجد أن بماردين ثلاثة جسور حجرية بنيت في نفس تلك الفترة فضلاً عن الجسور التي بنيت بفترات أقدم وبقيت. أحد هذه الجسور يحمل نقشاً يوضح من قام بتعميره وهو أحد التجار. حتى لو قلنا أن تلك الجسور أصغر وعرض النهر وعمقه أقل، لكن في النهاية ليس لها نظير في مناطق أخرى من العراق وفي الوقت الذي كانت بغداد هي العاصمة التي تتبع لها ماردين وكانت جميع الضرائب تجبى لها وقد نالت حكم شبه مستقل طيلة القرن الثامن عشر. لا أريد أن أقدم رأياً هندسياً هنا فهذا ليس تخصصي، لكن في نفس الوقت من الواضح أن بغداد ليس فيها سوى جسر رديء.
بغداد
حال دخول بغداد يمكن ملاحظة أن هناك مساحات كبيرة داخل سور بغداد تخلو من اي عمارة او زراعة بل مجرد خرائب او أراضي فارغة. بالمقابل فإن الجانب الشاطئي هو الجانب الحي من المدينة.
شكى نيبور من الحر هناك ويقول أن عمارة بيوت بغداد سبب في حر تلك البيوت لكنه يصف غرفها بالجميلة رغم اعتراضه على تصميمها ويقول أن فيها سراديب يتقي الناس الحر فيها. ووجه اعتراض نيبور على بناء البيت هو أنه يرى بأن الحوش الخالي من الهواء والذي تسطع عليه الشمس مع الجدران العالية سيجعل البيت كالفرن، وفضلا عن السرداب هناك ما يشبه المدخنة التي تتواجد في البيوت التقليدية في ايران والخليج اليوم ويسميها “بادكير”. وفي نفس الوقت يبدو أنه جمع من المعلومات ما يكفي عن الفصول الأخرى فيذكر أن الثلج كان يغطي الأرض بنصف اصبع في شهر شباط. وقد وجد ان الفقراء عراة مشردون في الشارع ويذكر أن 20 منهم تجمدوا برداً في الشتاء.
ايضا يفكر نيبور بسيناريو احتلال بغداد من قبل عدو اوربي، يصف اسوارها وابوابها وخندقها ومدفعيتها ويعلق نفس التعليق الذي ذكره هيود، وهو أن نادر شاه حاصرها مرارا ولم ينجح لكن لو كان اوربيا لنجح نظراً لسوء رجال مدفعيته.
دخل نيبور ايضا للقلعة الداخلية ويقول لو كانوا اوربيين لما سمحوا له بالدخول فكيف يسمح لشخص غريب بل وأجنبي بالدخول لقلب تحصينات المدينة. في القلعة الداخلية وجد الإنكشارية يدخنون ويلعبون النرد في الخارج حالما يكون الجو جيدا ولو ساء الجو دخلوا للداخل.
المستنصرية خربة وليست سوى اسطبل وخان نصف مهدم للمسافرين. والمدرسة المرجانية حية تعمل بصفتها مدرسة وهي المدرسة الأكبر في المدينة. أما جامع الخلفاء فقد اثار اهتمام نيبور وتجدر الإشارة أن كل من المستنصرية وجامع الخلفاء بنيا في عهد المستنصر.
ثم يتحدث عن المرقد المسمى بقبر زبيدة ويروي أن عائشة بنت مصطفى باشا زوجة حسن باشا هي المدفونة والذي هو في الحقيقة قبر زوجة الناصر لدين الله زمرد والذي يعتقد انه صحف فصار زبيدة.
يمعن نيبور في السرد التاريخي لحقبة الولاة الضعفاء ثم حقبة حسن واحمد باشا لكن دون ان يضيف تفاصيل كثيرة فهناك شوكة للانكشارية وشوكة للعرب يحتاج الوالي ان يكسرهما حتى يستطيع أن يحكم، ثم يذكر حصارات نادر شاه واستفادة احمد باشا منها سياسيا في البقاء.
ترسل اسطنبول قابجي ليغتال الولاة، حالت افندي كان هذا الشخص لاحقا وفي عهد احمد باشا كما نطلع لدى عباس العزاوي، ونيبور أيضاً عرف بجانب من هذه القصص حيث جاء القابجي ليغتال أحمد باشا فلاعبه احمد باشا لعبة الجريد وقتله واعتذر لاسطنبول. ولعبة الجريد هي لعبة أشبه بالمبارزة الاوربية كما يبدو، ويفترض أن يلعب اللاعبون بأخشاب أو برماح غير حقيقية لكي لا يؤدي الى وفاة الشخص.
يذكر نيبور ان هناك اغاني لمدح سليمان باشا ومراثي له في مقاهي بغداد. اين نحصل عليها؟ هل كانت عربية ام تركية؟ لا نعلم. ويتطرق أيضاً لقصة عادلة خاتون المذمومة من قبل الناس لتحكمها بزوجها سليمان ونقضها اوامره.
ويصف الخلعة الي يرسلها الباشا للاغوات هي معطف من الفراء اما لشيوخ العشائر فيرسل ما يشبه العباءة اليوم ليس لها ردن وخفيفة وفضفاضة، وقد اضافت عادلة قطعة من الحرير لتلك الطقوس فتهديها لذوي المناصب، وصار ذلك سنة من زوجة الباشا وصار ايضا امرا يشترى بالمال.
كما هو معروف فإنه بتحريض من عادلة قام سليمان بقتل زوج اختها احمد اغا وتزويجها من عمر اغا. ثم مات سليمان فصوت المماليك الكبار الخمسة على علي باشا الذي كان شيعيا اعجميا وكان متسلم البصرة. اول عقبة امامه كانت دخول بغداد وهزيمة الإنكشارية المعارضين له وقد نجح في هذا ثم الاكراد ونجح ايضا ثم الخزاعل وهنا هزم امامهم فحرضت الماكنة الاعلامية لعادلة عليه بأنه جعل الجيش الذي فيه من سنة بغداد ينهزم امام العشيرة الشيعية أي الخزاعل. ثم وبعد وفاة احد المماليك الخمسة أشاعت عادلة بانه سمه حتى اجتمع الاربعة الباقون وثاروا ضده وهرب بملابس نساء من بغداد ليستنجد بالقبائل (الشيعية ربما) لكنه اعتقل واعدم في السراي.
في تلك الفترة كانت ماردين تتبع بغداد وكان حاكمها يسمى ويوضة والتي وجدتها بصعوبة في مجلة لالش العدد 11[1] حيث ذكروا أنها كلمة سلافية تعني حاكم وكانت تستخدم في الولايات العثمانية الاوربية وفي ماردين وصاحب هذا اللقب يعادل المتسلم أي مثل متسلم البصرة.
يفصل نيبور في أعضاء المجلس المحلي ببغداد والذي يستعين به الباشا ويتكون من ويوضة ماردين ومتسلم البصرة والمفتي وعدد من الأعيان كما كان فيه في وقتها عبدالله بك اخو شيخ عشيرة العبيد كان بلقب بولوك باشي الذي هو بنفس الوقت رئيس اللاوند اي ان اللاوند هنا كانوا هم العبيد واللاوند هم مقاتلون مرتزقة باجور يومية. وكان في نفس الوقت ذو شأن كبير فكان الوالي يستشيره في شؤون العرب.
وبمناسبة ذكر اللاوند، يوضح نيبور لاحقا ان اللاوند مئة بيرق موجودون في الحلة والحسكة ولا ندري هل هذه حسكة الجزيرة ام الحسكة قرب الديوانية وهؤلاء يجبون الباج وتعدادهم حوالي 1500 وأميل الى أنها الحسكة قرب ماردين لأنه ذكر نقاط جمع الباج من قبل الحكومة وكان هناك في العرجة وفي القرنة وفي الحلة لكن لم يذكر أن هناك نقطة في لملوم أو قرب لملوم حيث قضاء الحمزة، كما أنه تطرق للديوانية وذكر أنها موجودة بهذا الإسم لكن يبدو أنها أقل أهمية من لملوم في حينها ولم يذكر أن فيها نقطة لجمع الباج.
من القوات الأخرى الموجودة هي البرتلي أو البرائتلي (البرائتيون) 30 عصابة كل منها 40 مقاتل كان منهم 800 في بغداد ممن تواجد في حينها ولعل البقية كانوا في اجازات وغيره. معظمهم اتراك مدربون تدريبا جيدا ومرتبطون مباشرة بالسلطان لا بالباشا (تكية القلعة أو تكية بابا كركر ببغداد كانت التكية الخاصة بهؤلاء) ومنهم محليين يصفهم نيبور بالاكثر سذاجة بين هؤلاء.
خاض نيبور كما يبدو حوارا او حوارات مع احد البيرقدارية. سأله عن التدريب فتكلم البيرقدار عن البركة والدعاء وقراءة الفاتحة وقال ان الباشا يمكن ان يجمع قرابة 36 الف كحد اقصى من جميع انحاء الولاية مع ماردين وكردستان والحسكة والبصرة (لاحظ أنه لم يذكر الموصل فهي الوحيدة التي لم تكن تابعة لبغداد طيلة الفترة العثمانية) لكنه لا يستطيع ان يجعل اكثر من 10 الاف يقاتلون ولو فعل فوجود كثير من هؤلاء يضر اكثر مما ينفع بحسب رأي نيبور. كما نلاحظ وجود مفهوم التطوع بعنوان “سردن كجدي” وقد سجل خادم نيبور متطوعا، يقول: “ليحتفظ بالاموال التي اعطيتها له فربما يجب عليه ان يدفع لو لم يتطوع”. وكانت في حينها تعد العدة لقتال بني كعب في البصرة.
كان لمناطق بغداد أبواب على الشوارع الرئيسية وكانت تغلق في المساء لتفصل المناطق عن بعضها، وقد رأى نيبور مثل هذا في القاهرة أيضاً.
اللطم والشعائر الشيعية لم تكن مسموحة في بغداد وكانت تقام في الكاظمية.
يبدو أن ثقافة الناس الدينية كانت متدنية ومتناقلة على الالسن فحسب فلم يعرف الناس من اهل بغداد حقيقة سلمان الفارسي عندما حدثهم عنه نيبور بل قالوا له انه حلاق الرسول فقط لكنهم لم يعرفوا ان كان قاضيا ام صحابيا ام ما صفته بالضبط.
يعمل الاباء الكرمليون وهم اوربيون مقيمون في بغداد على تبشير المسيحيين من الكنائس الشرقية والمشرقية وادخالهم في الكاثوليكية وهم يحملون مهارات في الطب تعطيهم حظوة بين الاتراك ويقدمون الرشاوى احيانا كما انهم لا يجرؤون على دعوة المسلمين بسبب تبعات ذلك.
كردستان
انتقل نيبور بالحديث نحو التون كوبري ثم اربيل وكويسنجق. يقول أنه سابقا كانت اربيل والتون كوبري تابعتان الى كويسنجق اما في زيارته فقد اصبحت اربيل تابعة لبغداد ويرسل حاكم اربيل اغا الى التون.
بعد گوزتپه وفي قره چوق تقدم فارسان كرديان بنية تسليب نيبور وقافلته لكنهما كانا يحملان الحراب فيما يحمل هو بندقية وكان يتحاور مع القادمين هذان او غيرهما دون خوف فلا يتعرض للخطر. يقول ان اهل هذه المنطقة لا يعيرون الحكومة اي اهتمام. ويقول ان في المنطقة اثار لمدن وقرى سابقة لكنه لم يشعر بالامان للذهاب اليها.
كانت قوشتبه صحراء حتى عهد احمد باشا اذ امر بحفر بئر فيها ورخص زراعتها لمن يريد فصارت ارضا خصية مليئة بالمزارع والفلاحين. ولم يذكر انها مسيحية رغم انها كذلك الان، بل حتى وجد فيها امرأة مسلمة كردية تصلي. وتسمى المنطقة ايضا خان عادلة اذ اسست فيها عادلة خانا. ويرى نيبور ان الولاة قادرون على تحسين الواقع غالبا لكنهم لا يفعلون.
لم يكن هناك سور بأربيل بل بيوت مصطفة على التل بطريقة لا تسمح لاحد بالدخول وهذا حاضر في يومنا ويمكن رؤيته. تحت القلعة هناك بيوت قليلة وهناك جامع السلطان مظفر الذي يحل محله بارك منارة اليوم. لكن ليس هناك “مدينة قذرة” أسفل القلعة كالتي وصفها هيود إذ يبدو أنها توسعت لاحقاً خلال الخمسين سنة القادمة.
زراعة القمح في اربيل اقل مما في بغداد بقليل حيث يقول خمسة عشر مثلا في اربيل وعشرين مثلا في بغداد (لم أفهم ذلك). لكنها تعتمد على المطر لا على السقي. ومن الواضح ان هذا تغير مؤخرا أي عندما نقارنه بوقتنا الحالي.
الزاب مثل اليوم يمكن عبوره بالخيل باستثناء في موسم ذوبان الثلوج. ولا قرى بعد الزاب سوى قرية تعرف بعبدالعزيز وسكانها يزيدية يخفون دينهم. وتجدر الإشارة الى أن هذه المنطقة لم يعد فيها يزيدية اليوم ولم تعد كردية أيضاً.
في عبور الزاب مغامرات طريفة مع اليزيدية وسب الشيطان. إذ كان على الناس الاستعانة باليزيدية لعبور الزاب الذي يعد التيار فيه جارفاً قوياً رغم ضحالة منسوب المياه لكنه يمكن أن يجرف شخصاً او أن يجرف الحيوانات لذا فإن عبوره خطر. اليزيدية هنا يشعرون بالقوة ويتحتم على الناس أن يحترموا معتقداتهم فضلاً عن اعطائهم اجرة جيدة ليساعدونهم في عبور الزاب نحو الضفة الأخرى. نيبور بدوره أعطى أجرة لأحد اليزيدية وأخذ متاعه وصعد فوق القارب الذي يتكون من جلود حيوانات منفوخة، لكن أحد العرب في القافلة أصر على شتم الشيطان أمام اليزيدية وهذا خلق مشاكل عديدة وعرقلة للرحلة.
يتحدث نيبور بتفاصيل جيدة عن ديانة اليزيدية ويبدو أنه سأل واستفسر جيداً فهو لا ينقل الرواية الإسلامية فحسب بأن هؤلاء يعبدون الشيطان، بل يقول أن لهؤلاء رؤية خاصة في أن ما حدث بين الله والشيطان هو أمر بين الله وملائكته العظام وليس للبشر التدخل في ذلك.
الموصل
في كرمليس خاض نيبور حوارا متخلفا عن البابا مع كلداني مهتدي بحسب قوله اي انه ليس مشرقيا ثم جاء المشارقة ولم يستطع نيبور ان يرضي احدا واستطاع التهرب بصعوبة من النقاش. كان هؤلاء لديهم مفهوم كأن الاوربيين ملة واحدة.
يقول نيبور ان هؤلاء يتكلمون السريانية لكنها تختلف عن القديمة التي كتب بها الانجيل كما انهم يتكلمون التركية والكردية اذا كانوا ممن يعملون في التجارة ويصف العربية بانها لغة التأدب والتحضر في هذه المناطق، فلعل التركية تراجعت وتعززت الهوية العربية اثناء حكم احمد وحسن باشا وتوطيد الحكم محليا.
بعد كرمليس هناك القوش، باشبيثا، بازاوا، گوگجلي في الطريق نحو الموصل وكلهم اصغر من كرمليس التي لا تتعدى ال 70 بيتا. وهناك قرى منارة وكوچك ايضا. وفي المنطقة ايضا قرية قاضي كند (القاضية) ويارمجه.
طبعا يكاد نيبور أن يسرد جميع القرى والنقاط في ريف الموصل ولا سبيل لحصرها هنا.
سامراء وتكريت موجودتان ويصف الملوية. ويقول ان الطريق مليء بالاثار الاسلامية بين الموصل وسامراء. والطريق كله غير مأهول بالسكان عدا تكريت ولا ندري هل يقصد ان سامراء فيها الاثار فقط والمراقد وهي غير مأهولة؟
عملية اخذ الباج في الموصل وكركوك هي عملية اخراج جمركي شبيهة بالحديثة حيث توزن البضائع وتفتش ويدفع التاجر قيمة مختلفة حسب البضاعة لكن بالنسبة لنيبور فهذه الاجور زهيدة جدا.
الموصل مدينة مستقلة عن بغداد واليها بنفس درجة والي بغداد أي باشا بثلاث طوغات.
في الموصل تعرض نيبور للفتنة لانه لم يصم والاباء الدومنيكان حاربوه وشنعوا عليه وسبب له ذلك مشكلة حتى مع المسلمين لانه بروتستانتي. ثم اضطر ان يرشي احد الاباء بشراء قطعة اثرية منه بسعر باهض لكي ينجو من ذلك الحال ثم وجد ان ذلك الاب كان يشنع على نصارى الشرق.
قيل له ان في الموصل قرابة 20 الف بيت وهو لا يعتقد بصحة ذلك. منهم 1200 مسيحيين ومن هؤلاء ربع نساطرة وكاثوليك والباقي يعاقبة اي يقصد ارثدوكس. ويتكلم مسيحيو الموصل العربية ويكتبون بالخط الگرشوني الذي هو مزيج ارامي عربي.
وفرق الموصل عن بغداد والقاهرة هو ان احياءها ليست منفصلة ببوابات، كما ان شوارعها معبدة وبيوتها فيها قباب ومبنية بالحجر والجص. كما أعجب نيبور بالفنون والنقش على الحجر في مراقد ومساجد كثيرة يعود معظمها الى عهد بدر الدين لؤلؤ والتي يقول انه لم يجد مثلها في بغداد والحلة ويبدو بالفعل أن الموصل اثارت استحسانه أكثر من بغداد. وفي الموصل 9 منارات لمساجد وفيها 10 كنائس. ويؤرخ المسيحيون في الموصل بتاريخ بعد حكم الاسكندر وبتاريخ ميلاد المسيح فكانت السنة 1744 مثلا هي 2055.
يتكلم عن عبد الجليل جد الجليليين واهميته لدى النساطرة دون الخوض في احتمالية ان يكون مسيحيا في الاصل، لكنه محبوب من المسيحيين والمسلمين وحكم بعده ذريته وافشلوا الولاة القادمين من إسطنبول عبر التعاون مع العشائر المحيطة في اثارة القلاقل وافشال الولاة كنتيجة.
يشاع عن اليهود خطف الاطفال، حادثة في حلب واخرى في طريق النبي ناحوم خارج الموصل وهذه الاشاعات من المسيحيين وهناك. هذه الاحداث بهدف الانتقام وليس بهدف الاعتداء الجنسي، ففي خارج الموصل ضرب الطفل وقطع لسانه كرد فعل على انتهاك تعرض له اليهود وفي حلب كان طفل قد خطف كما يشاع وكان قد شارف على الموت.
الإنكشارية والناس
تبدأ قصص الإنكشارية مبكراً ويسردها نيبور بتلخيص جيد لم أر له مثيلاً حتى الآن في الكتب الأخرى. القاعدة تقتضي أنه لا يمكن محاسبة الإنكشارية الا من قبل وحداتهم، أي أشبه بما هو معروف اليوم بالمحاكم العسكرية. لكن هذه الوحدات لم تكن بتلك الكثرة ولم يكن هناك صلة بين الإنكشارية والناس بصفتهم صنفاً واحداً بل كعلاقة المحتل الأجنبي بابناء البلد. في البصرة كانت اقرب وحدة تقع في القرنة حيث يتواجد الضباط فلم يكن هناك امكانية لمحاسبة الجنود وبالتالي فقد كان لهم كل الحق بالاعتداء على الناس وممارسة السلب والتطاول وهذا ما كانوا يفعلون. اما في البصرة فقد كان هناك ضباط صغار فقط.
الإنكشارية لم يكونوا جيشا من الاجانب فقط بل كانوا يقبلون من يتقدم اليهم من اراذل الناس كما كان الناس يسجلون كجنود لحماية انفسهم من الإنكشارية فيقول نيبور ان معظم اهالي البصرة كانوا انكشارية من المتسلم وحتى اوضع الحمالين. وجه السلب الذي يقومون به هو بسلب أموال الناس واخذ اتاوات منهم بحجة الحماية، وفي بغداد فقد كان نشاط الإنكشارية في السلب يزداد عندما يكون منصب الباشوية شاغرا وكانوا يسلبون بيوت اليهود والمسيحيين في وضح النهار. اما الخلافات بين الوحدات فقد كانت تجري عندما يطلب الاهالي الحماية من وحدة اخرى فتتنازع الوحدتان حول تلك الحماية والتي ما هي الا شكل من اشكال الجباية التي تتم بغير حق.
في موضع آخر يذكر الإنكشارية المفصولين من بغداد لأسباب تتعلق بسوء السلوك ، يتواجد هؤلاء في الطريق الى النجف وكربلاء ويمارسون الاعيب على الزاور الايرانيين من خلال اتهامهم بسب الحكومة والشهادة عليهم وتهديدهم بالعقاب والفضح ما لم يدفعوا.
الانضمام للانكشارية اتقائا لشرورهم كان يحدث أيضاً في الموصل مثل غيرها وحتى المسيحيين كانوا يسجلون كخدم في الانكشارية لاتقاء شرورهم، المتطوعون ايضاً كانوا موجودين (سردن كجدي) في الموصل.
قدر الإنكشارية القزان هو محور الاورتا (الوحدة) الخاصة بهم، له قدسية والاجتماع يتم حوله، وفي رفعه رمزية للثورة (قزان قالدرمق). نضيف على الملاحظات هذه حول القدر والتي وردت في هامش الكتاب، أن في هذا الامر يبدو الإنكشارية كأنهم جماعة لها تقاليد، فمن المعروف أنهم يتبعون الطريقة البكتاشية وأنهم أو على الأقل النواة الأجنبية المهيمنة منهم يتكونون من أبناء الأجانب أو من أبناء الأناضول على الأقل، ومن ثم فهم قادمون الى أرض لم يولدوا فيها أو ينشؤوا فيها وبالتالي فهم قوة أجنبية لا تنتمي بأي شيء لأهل الأرض لها تقاليدها ودينها ولغتها وتمنح فوق ذلك السلطة على أهل الارض.
خلاصة
رحلة نيبور مميزة للفترة التي حدثت فيها، الرجل مسيحي متدين بروتستانتي له انحياز لا شك فيه للمسيحيين، لكن مع ذلك فهو دقيق جداً وقدم ملاحظات لم يقدمها غيره فضلاً عن الفترة التي قام بها بالرحلة. تنقص رحلته الملاحظات عما موجود شرق دجلة اذ لا يعقل ان يكون فارغاً تماماً، لطالما لم يتجه الرحالة هناك ولطالما كانت المنطقة التي تقع فيها محافظتي ميسان وواسط اليوم أرضاً منسية تماماً في التاريخ وكأنها الربع الخالي. أيضاً لم يزر نيبور ديالى ولا أدري كيف أخذ الطريق فهو تناول التون كوبري وأشر كركوك بخريطته وتكلم عنها وفي نفس الوقت يبدو أن لديه بعض الالمام بطريق بغداد الموصل المار عبر تكريت، هو لم يوضح ذلك. ويذكر عن كردستان أنه سمع اخبارها من بغداد فحسب.
[1] مجلة لالش، العدد 11، ص41، المانيا
[1] KOÇ, İrfan Yildiz&erkan. “MARDİN’DEKİ TARİHİ KÖPRÜLER ÜZERİNE BİR DEĞERLENDİRME.” Mukaddime 2.2 (2010): 97-118.