[English] حينما قرأت العنوان منشوراً على صفحة الدكتور سعدون محسن ضمد في تويتر ودخلت على مقطع الفيديو من برنامج المحايد، ظننت أن المتكلم هو أحد هؤلاء الغارقين في هوة الاسقاط التوراتي على التاريخ أو في مغالطة تفسير التاريخ القديم بحسب ما كتب منه فحسب. كان الدكتور نائل حنون ينفي وجود قومٍ اسمهم السومريون ببساطة، قائلاً “من أين جاؤوا وما الدليل على أنهم جاؤوا من خارج بلاد الرافدين” لأفكر هنا أنه أيضاً يقع في مغالطة أخرى بأنه يفترض أننا يمكن أن نمتلك دليلاً على كل شيء مما مضى، ولحسن حظي لما امتلكته من تسرع وجهل في التاريخ القديم أنني أكملت الحلقة (في المقطع أدناه) لأجد نفسي أمام سؤال كبير حول وجود السومريين.
في البداية، يجب أن نعرف أن السومريين رغم كل ما نقرأه في التاريخ عنهم فإنهم ليسوا جماعة محددة وواضحة عبر فحوص الحمض النووي، ولطالما كان من اهتماماتي أن أعيد البحث في كل مرة لعل باحثاً ما وجد السومريين. طبيعة المجموعات الفردانية في جنوب العراق من حيث تنوعها وتواريخ قدومها الى المنطقة لا يتضمن عنصراً يتناسب مع خارطة وجود السومريين الزمنية والجغرافية في العراق. أيضاً فلا توجد أي أدلة في الجماجم يمكن أن تُظهر مجموعة أخرى.
كما يجب أن نعرف أيضاً أن اللغة السومرية المعروفة حتى الآن هي لغة غير مصنفة وأن الشعوب الهندوأوروبية والسامية بل وحتى الارالية تدعي انتسابها لها. كما أن هناك انطباعاً سائداً بأن السومريين هم قوم أكثر تمدناً وتطوراً عاشوا في جنوب العراق واخترعوا الكتابة ثم تم غزوهم من قبل الأكديين وهم شعب سامي ليستخدمهم هؤلاء ككتاب ونخبة مثقفة يقتبسون منها العادات والنظم لكنها سرعان ما اندثرت السومرية واندمج السومريون ونطقت لغتهم آخر مرة في الألف الأخير قبل الميلاد. لكن ما سمعته من د. نائل حنون يغير كل ذلك. مبدئياً سأكتب ما فهمته هنا، لكنني سأعود لأعدل واضيف لهذا المقال بعد أن اقتني كتاب الدكتور حنون المسمى حقيقة السومريين.
يقول الدكتور نائل حنون أن افتراض وجود السومريين يلغي كل التطور الحضاري السابق لهم في المنطقة وهو أمر موجود ولا يمكن الغاءه سواء من حيث الناحية الزمنية أي في فترات سبقت فترة استيطانهم الافتراضية في جنوب العراق أو من الناحية الجغرافية أي في مناطق شمال وادي الرافدين حيث لم يعش السومريون. والواقع أن هناك أقواماً متمدنة متطورة لها اكتشافات ومنجزات حضارية كثيرة مشهود بها وهذا كله لا يعزى ولا يمكن عزوه للسومريين بل لشعوب المنطقة (السامية بشكل رئيسي – الدكتور نائل حنون لم يذكر ذلك ولم يستخدم هذا المصطلح بل يستخدم مصطلح لغات واقوام شقيقة لكن هذا ما فهمته). إذاً فإن افتراض وجود السومريين فيه إجحاف لسلم حضاري مستمر قبل وجودهم وخارج مناطقهم وجودهم المفترضة كما يرى الدكتور.
لكن ألا يمكن أن نسأل لماذا؟ هل من مانع من أن يكون هناك آخرون امتازوا بالتقدم الحضاري السابق، ثم جاء السومريين وأضافوا الكتابة؟ من الصعب علي بالتأكيد أن أغطي آراء الباحثين في هذا المجال، لكن إن كان هناك من يضع اختراع الكتابة دليلاً على التفوق السومري الفائق في جميع المجالات على الشعوب المجاورة فتلك هي مشكلة ذلك الباحث وليست مشكلة وجود أم عدم وجود السومرية كلغة.
ثم يطرح الدكتور نائل حنون قضية أخرى، فلو كان شخص ما يفترض بأن السومريين جاؤوا من منطقة أخرى، فمن أين جاؤوا؟ هل هناك دليل على أنهم جاؤوا من مكان آخر حتى نفترض ذلك؟ بحسب الدكتور نائل حنون فإنه لا يمكن أن نجد دكتور آخر. لا دليل في الواقع على أي شيء بخصوص السومريين سوى صيغة الأسماء السومرية، وفي الواقع حتى ابنة سرجون الأكدي لها اسم سومري، فهل ابنته سومرية؟ هذا ما يضيفه الدكتور نائل حنون.
أما حول معنى كلمة سومري وسومر ومواضع ذكرها فيذكر الدكتور وائل حنون أن كلمة سومري يقصد بها الكاتب الذي يتمرن على الكتابة بالسومرية بحسب الالواح المسمارية ولم ترد بأي معنى آخر، أما التشويش الحاصل من استعمالها كصفة للشعب أو للطبيب أو للفلاح فتأتي من عالم الآثار صموئيل نوح كريمر الذي كان يجتهد فيقول المرأة السومرية، الطبيب السومري الفلاح السومري ولا يوجد شيء كهذا. كان يترجم كلمة “البلاد” الى “البلاد السومرية”. كان كريمر يترجم أفكاره تجاه الموضوع وليس النص بدقة حيث يفترض أن الطبيب سومري فيقول الطبيب السومري وهكذا. أما سومر كمكان فقد وردت في جميع الحالات برفقة أكد (سومر واكد) سوية، يشبهها حنون بمنطقة كسرة وعطش في بغداد حيث لا توجد منطقة اسمها كسرة. كما يذكر أنها وردت لوحدها مرة واحدة بما يشبه مشروع سياسي لجميع المدن الواقعة ضمن رقعة معينة. أيضاً فإن المصطلح سومر أكاد لا يلفظ إلا باللفظ الأكدي.
أقوى ما ذكره حنون هو السومرية فيها خصائص غريبة لا ترد في لغات التخاطب: مثلا كل مقطع هو اسم وفعل وصفة في الوقت نفسه، تكتب الجملة السومرية بذكر الاسماء دون حروف وضمائر واسماء اشارة، ثم بعكس السطر تضاف الأدوات، ثم تضاف الحروف الصحيحة من كل مفردة مع حرف العلة الذي يليها لتكوين مقطع جديد. لا أدري إن كان هذا هو الشكل الوحيد لكتابة السومرية، فهناك العديد من الأبحاث التي تناولت قواعد السومرية وقارنتها فهل كانت كلها بهذه الصيغة؟
الأسئلة المطروحة لدي والتي لم أجد لها جواباً، حسبما أفهم فإن السومرية لم تكن فقط طريقة كتابة كما ذكر الدكتور نائل حنون، بل كان فيها مفردات فهل هي مثل لغة الهوبيت التي ضربها كمثال؟ هل هناك من خلق رموزاً للاشياء بلغة أخرى أم كان هناك فعلياً لغة أخرى تتداول مفرداتها على الأقل؟ يمكن أن نجد حين نبحث أن هناك قواميس للسومرية وهناك الكثير من المفردات، والأهم هو أن هناك القليل من التداخل اللغوي مع الأكدية في الفترات الأولى، فكيف يمكن أن تكون للغة كتابة وترميز معينة (إن كان فهمنا هذا صحيحاً حول فكرة نائل حنون عن السومرية) أن تتضمن مصطلحات ومفردات مستقلة؟[1] لم تكن السومرية كتابة صورية فقط، بل كان هذا في البداية ولاحقاً أصبحت تكتب بالكتابة المقطعية وهذا هو الطريق الذي تم بواسطته اكتشاف اللغة السومرية والأكدية وغيرها من اللغات التي كتبت بنفس الطريقة في المنطقة.
أما المؤاخذة الأخرى فهي أن الدكتور نائل حنون لم يتطرق قط لفحوص الحمض النووي وهي نقطة يمكن أن يستفيد منها في تفنيد وجود السومريين حيث لا توجد مجموعة مميزة بزمنهم ومكانهم في الحمض النووي، لكن من الممكن أن تضعف ما وصفه بالشعوب الشقيقة والتي أظنه يقصد بها الشعوب السامية الأخرى. نعم، ليس هناك سومريين، لكن أيضاً هناك العديد من الشعوب الأخرى الموجودة والتي يمكن ملاحظة خطوطها في الحمض النووي دون أن يكون لها قصة تاريخية واضحة، وهذه الشعوب ليست شقيقة أي أنها ليست سامية، كما أنها ليست هندو-أوروبية. الشعوب الإيرانية (او الهندو أوروبية بشكل عام) والسامية ذاتها تتكون من فروع إضافية غير شائعة الى جانب الفروع الرئيسية التي تعرف بها، فهل نلغي السومريين لنختزل المنطقة بالشعوب الشقيقة؟ أظن أن فحوص الحمض النووي ستأتينا بنتيجة أكثر تشعباً وليست أكثر بساطة.
ما ذكره الدكتور نائل حنون حول المعضلة السومرية (the sumerian problem) وحسبما يمكن لأي شخص أن يطلع عليه في الأبحاث لا يرقى لتغطية جميع آراء الدكتور، بل فقط معضلة أصل السومريين[2] [3]. ورداً على طريقة طرح السؤال هذه، نعود لنطرح قضية الحمض النووي وقضية قل المعرفة بالتاريخ القديم لدينا، فنحن هنا نفترض المشكلة والسؤال فقط لأننا عرفنا من هم السومريون، ومثلهم هناك عدة شعوب عرفنا بها ولم تصلنا بالضرورة كتابات عنها، فهل سنطرح سؤال أصلهم ومن أين جاؤوا أيضاً معتبرين إياها “معضلة”؟ ماذا عن من لم نعرفهم؟
تبقى لدينا قضية أخرى، وهي أن أحدهم قد يتسائل عن إمكانية استخدام بيانات الحمض النووي حالياً لحل أسئلة كهذه، لكن في الحقيقة فإن الأمر ما زال مبكراً خصوصاً عند أخذ البيانات المتوفر بنظر الاعتبار. باختصار، ليس لدينا ما يكفي من الفحوص لرسم صورة دقيقة. تضم المنطقة أكثر من 10 أنواع من المجموعات الفردانية للحمض النووي وهذه الأنواع هي فقط تصنيفات شاملة كبيرة جداً أي أنها عابرة للقارات وأنها تتجاوز الثلاثين ألف سنة عمراً. لنقرب الصورة، فإن مجموعتي الفردانية هي E، وبالتحديد أحد الفروع من هذه المجموعة E-M35 والذي يرجع عمره الى 22 الف الى 48 الف سنة من الآن، أي أنه من حقبة أقدم بكثير من الحقبة التي نتكلم عنها الآن، ومثله هناك قصص مشابهة للمجموعات الفردانية الأخرى. مع فحص آخر عرفت أنني من فرع آخر قد يرجع الى 19 الف سنة، ومع بعض الاستنتاجات والتحليل قد استطيع عزو حمضي النووي الى فرع دقيق آخر يصل الى العصر البرونزي وقبله بقليل. كم من الجهد الشخصي والأموال استغرقت للحصول على هذا الاستنتاج؟ وكم من قصص أخرى مشابهة تتواجد حولنا؟ والأهم من هذا، كم من المفاجآت؟ إن فحص الحمض النووي التقليدي من الصعب أن يجيب على الأسئلة الدقيقة في معظم الأحيان بل يمكن ان يوصلنا الى المجموعات الفردانية العامة فقط. وهكذا، فإن استخدامه مبكر، لكنه وسيلة لا يستهان بها وهي بالنسبة لي على الأقل تحتل مساحة كبيرة وأولوية أمام أي سؤال من التاريخ القديم كما أنها أكثر رصينة وعلمية من أي وسيلة أخرى لقراءة التاريخ القديم.
وعند الختام، سأعود لهذا المقال حينما اقتني احد كتب الدكتور نائل حنون.
مصادر
[1] Cooper, Jerrold S. “Sumerian and Akkadian in Sumer and Akkad.” Orientalia 42 (1973): 239-246.
[2] So³tysiak, Arkadiusz. “Physical anthropology and the “Sumerian problem”.” Studies in Historical Anthropology 4.2004 (2006): 145-158.
[3] Ziskind, Jonathan R. “The Sumerian Problem.” History Teacher (1972): 34-41.