يُمكن اعتبار الدولة العثمانية إحدى اكثر الدول الإسلامية نجاحاً من حيث فترة البقاء لا من حيث ما قدمته من منتجات حضارية بالتأكيد. دامت الدولة الأموية اقل من مئة سنة، وكذلك الحقبة العباسية الأولى التي كان فيها نفوذ حقيقي للعباسيين وبعدها صار الخليفة العوبة أو (خليفة في قفص) -كما عبر عنه ابن المعتز (كما أذكر) – وصار النفوذ الفعلي بيد الترك غالباً والبويهيين لفترة معينة. أما الحقبة العباسية الأخيرة فقد كانت الدولة العباسية بلد ضعيف اثناءها وذلك أمام قوى الشرق من الخوارزمشاهية والغرب من المماليك في مصر والشام والحجاز. لم ينجح أحد في البقاء لفترة طويلة سوى العثمانيين، لا الصفويين ولا سلالات المماليك ولا سلالات التركمان في العراق ولا حتى المغول الايلخانية الذين تبدد حكمهم بسرعة.
قد يقول قائل إن الموضوع يتعلق بالاناضول، وهي التي حفظت سلطان البيزنطيين لما يزيد عن الألف عام، لكن العثمانيين حافظوا على نفوذ جيد وامبراطورية كبيرة تتخطى الاناضول بكثير، كما أنهم خاضعون للمقارنة مع الدول الإسلامية بشكل أكبر لا مع البيزنطيين. هناك مجموعة من الملاحظات التي رصدتها عبر قرائتي لتاريخ الدولة العثمانية والتي ربما لم تتواجد في دولة إسلامية سواها مما أعطاها تلك القدرة على البقاء وهي:
· مزيج حرج بين الطرق الصوفية ذات الطابع الشيعي والتسنن الحنفي التقليدي: وضع وجود الطريقة البكتاشية في قلب مؤسسة الحكم العثمانية المؤرخين في حرج وحيرة حول عقيدة السلاطين الأوائل. فمن جهة وبعد نبذ كافة الدول السنية للاسماعيلية والطرق الصوفية الباطنية فتح العثمانيون لوحدهم الباب على مصراعيه لمشايخ هذه الطرق ليمارسوا طقوسهم في الامارة الناشئة وأبرزها طريقتي الحروفية والبكتاشية. تكايا البكتاشية وملابس السلاطين وما تحمله من كتابات صريحة في مدلولها العلوي وفي الطلاسم المكتوبة عليها ذات الدلالات الحروفية، وسير الإنكشارية وتكاياهم ونظم تربيتهم كل هذا يقول بأن الدولة العثمانية كانت دولة علوية لما يزيد عن القرنين في بداية عمرها، لكن في الوقت نفسه كانت مؤسسة المفتي موجودة وكانت سنية حنفية. برأيي إن ما كان يجري هو عملية مدروسة للاستفادة من مزايا الفقه السني الحنفي لعامة الناس، مع مزايا الطرق الصوفية في تجنيد واعداد عناصر مخلصين يُمكن أن يصبحوا من الانتحاريين حتى. ربما كان هذا المقصود في البداية، لكن الناتج الآخر الذي ظهر والذي لا يقل جودة عن الأول هو أن الانكشارية الناشئين في تلك التكايا يصبحون أشخاصاً مجردين من الوازع الديني تماماً فضلاً عن ما سيتقدم ذكره من مزايا تلك القوة. إذاً لن يكون هناك خوف من هؤلاء بأن ينشقوا وينضموا لثورة معينة بسبب فساد السلطان او بسبب عدم التزامه بالدين. إذاً تسير الدولة بالمنهجين سوية جنباً الى جنب وكل لما يناسبه.
· سياسات قتل الاخوة: لا تخلو قمة هرم السلطة في الدولة العثمانية من النزاعات بين الاخوة، لكن الكثير من السلاطين اتخذوا وسائل بشعة لمعالجتها ومنها سياسة قتل الاخوة. حيث كان هذا التقليد سارياً لفترة لا بئس بها بين السلاطين، حيث يقتلون جميع اخوتهم ومن كافة الأعمار. كان حكام التركمان في العراق وايران يسملون عيون من لا يريدونه في السلطة، وكذلك فعلوا مع بعض الخلفاء العباسيين مثل الخليفة القاهر، كما سجن كثيرون لعشرات السنين في قلاع حصينة لغرض اقصاء المنافسين على السلطة. لكن قتل الاخوة جميعاً كان اختراعاً عثمانياً.
· السياسات العنصرية: يحتقر العثمانيون العرب بشكل عام، وهناك تدرج لاحترام القوميات لديهم، فأولاً الأتراك وهم قلة وندرة ويليهم الروم، وهم سكان الأناضول الذين دخلوا في الإسلام بمراحل وتبدلت لغتهم الى التركية تدريجياً وهم اما ان يكونون في الأصل من اليونانيين أو من شعوب الأناضول الأخرى، ثم يقع الالبان والبوشناق والشركس بمنازل متقاربة ويليهم الجورجيون ومن أسلم منهم (اللاز) ثم الأكراد ثم العرب. وفق هذه السياسات كانت توزع المناصب والرتب العسكرية فكان حاكم العرب دوماً من تلك القوميات. وهنا لا أزعم أن اختيار الأعراق الأكثر تفوقاً هو عامل النجاح (على فرض وجود هذا التفوق أصلاً) بل إن التوزيع هذا يضمن صعوبة إيجاد تآلف بين الحاكم والمحكوم لتسهيل استقلال الحاكم واعتماده على أهل البلد. ولا ينطبق الأمر على القادة فحسب، بل على الجنود أيضاً، فلم تحاول الدولة العثمانية أن تستخدم العرب كجنود إلا مؤخراً، وبدلاً من ذلك كانت تستخدم ميليشيات من المرتزقة من مناطق بعيدة أو أن تستخدم جنوداً من الروم او غيرهم ليقطنوا في المناطق العربية.
· جيوش المسيحيين: يقال أن من أصول كلمة مافيا هي (معفي – مافي) وتنبع من المسيحيين الذين قاتلوا الى جانب العرب وانضموا لهم في صقلية فتم اعفاءهم من الضيبة ثم بقوا كقوة وبقي المصطلح. إذاً لم يكن العثمانيون هم اول من استخدم المسيحيين وتغاضى عن الفارق الديني من أجل زيادة النفوذ، لكن العثمانيون طبقوا ذلك كثيراً في البلقان بتجنيد الولاك واستخدامهم ضد القوى المسيحية الأخرى كما فعلوا ذلك في الأناضول حتى، وبلا شك لم تتحول الاناضول للإسلام دفعة واحدة بل أخذت مراحل عدة. ما كانت الدولة ستصمد لو تعاملت مع المسيحيين بشكل صارم يجعلهم عناصر تدفع الجزية فقط، بل كان من الأسلم فتح الباب للتخلص من الجزية والقتال الى جانب العثمانيين لشراء المزيد من القوى.
· جيوش المماليك من أبناء المسيحيين: الطابع المألوف كان يتمثل بسطو العثمانيين على قرية او مدينة مسيحية وأخذ الذكور من الأطفال فيها وتربيتهم في التكايا ليصبحوا جنوداً لا يمتلكون أي رابط أسري أو أي وازع ديني. غير أن كثرة اعداد هؤلاء تدعوني للاعتقاد إلى أنه كان نوعاً من العمالة الأجنبية تنتهجه الأسر الفقيرة المسيحية التي تعيش على تخوم الدولة العثمانية وهو ليس مقتصرا على الخطف والأسر. فمصائر هؤلاء كانت تنتهي بشكل جيد في كثير من الأحيان كما حدث مع داوود باشا والي العراق الشهير. التقليد هذا ليس عثمانياً بل هو تركي بشكل عام، فالسلاجقة كانوا اول من بدء بهذا النظام وحاكم الموصل الشهير بدر الدين لؤلؤ كان لم يزل يتذكر دينه ويحتفل بأعياده وهو مسلم في نفس الوقت. ترتبط هذه النقطة أيضاً بالسياسة العنصرية للعثمانيين حيث أن الاعتماد على هؤلاء بعد تعليمهم أفضل من تعليم أهل البلد الذين سيطالبون بالاستقلال وبالمزيد من الحقوق اذا ما تعلموا.
· نبذ الأصولية بشكل عام واستخدامها عند الحاجة: لا يمكن وصف الدولة العثمانية بالاصولية الدينية مطلقاً، بل كان الوهابيون العدو الأول للدولة العثمانية نظراً لطابعهم الاصولي. يزور العثمانيون ويبجلون مراقد الشيعة والسنة على حد سواء، ولا يبالون بتنفيذ احكام الشريعة بل إن وظيفة القاضي كانت وظيفة هامشية للغاية في ولاية بغداد مثلاً، هذا إن كانوا يهتمون بتطبيق القوانين أساساً. ومع ذلك، فإن الأحكام والفتاوى كانت تصدر عند الحاجة للتضييق على المسيحيين واليهود في بعض الأحيان (لم أشهد حالة كهذه في العراق) أو لقتل اليزيدية في أحيان كثيرة، أو الفتوى الغريبة التي صدرت من إسطنبول بتكفير الشيعة واستحلال أموالهم عندما دخل والي بغداد والعشائر العراقية في ايران بعد سقوط الدولة الصفوية (الطريف أن بعض العشائر المشاركة في الغزو هي عشائر شيعية).
·سياسات تبديل الولاة: حدث هذا في العراق في القرنين السادس والسابع عشر، بعض الولاة كانوا لا يبقون لأكثر من عدة أشهر، وعندما كانوا يأتون للعراق لم يكن لهم أي نفوذ أمام القوى المحلية من الإنكشارية والاشقياء والعشائر. أما القرن الثامن عشر فقد شهد تغييراً في هذه السياسة في العراق حيث تم الإبقاء على حسن باشا وابنه ومن بعدهم حتى نهاية حقبة المماليك، وبعد ذلك عادت سياسة تبديل الولاة. أما الفترة الأخيرة من الحكم العثماني في العراق فقد استحدث منصب قائد الفيلق السادس وكان أحيانا هو الوالي نفسه وفي أحيان أخرى كان قائد الفيلق شخص آخر. وهكذا كان يحدث في مناطق أخرى من الدولة العثمانية لضمان عدم توطيد نفوذ أي والي ليستقل بولايته.
· دولة عسكرية: لقرون عديدة كان التعليم الوحيد هو التعليم العسكري وليس التعليم الديني حتى، بالإضافة الى بعض الإضافات المفيدة في جباية الضرائب والتي يكفي تعليمها لعدة اشخاص ليشغلوا المناصب التي تقع تحت منصب الدفتري في الولاية (الدفتري هو بمثابة وزير المالية في الولايات)، يمكن اعتبار الدولة العثمانية دولة عسكرية، فالولاة هم قادة عسكريون للجيوش بالدرجة الأولى وليسوا رجال قانون أو رجال متخصصين في اختصاصات مدنية او في الشرع الاسلامي. الأنظمة العسكرية في العالم العربي اليوم تثبت ديمومتها أيضاً بالمقارنة مع الأنظمة غير المستندة على قادة الجيش.
· جيوش من الحثالات: لو أراد شخص تعريف ميليشيا مثل الباشبوزوق فإن انسب تعريف لأفرادها هو أنهم حثالات، أشخاص من المرتزقة يجوبون المدن ويعرضون خدماتهم مقابل المال على الولاة أو يتم تكليفهم أساساً من رأس السلطة للقيام بعمل عسكري معين. أشخاص ليس لهم أسر أو حياة مستقرة وكل حياتهم تعتمد على القتل والقتال مقابل أجر معين. لكن ليست الباشبوزوق وحدها هي قوة الحثالات، فهذا الوصف ينطبق على الانكشارية في أحيان كثيرة، أشخاص لم يروا أسرهم ولم تتم تربيتهم الا في التكايا البكتاشية ويشاع عنهم أنهم مثليون وأن الانتهاك الجنسي هو أول ما سيتعرض له الطفل المأسور حديثاً في تكايا تجمع بين الرقص والغناء وبين الاعداد العسكري للأطفال، كيف ستكون حياة شخص نشأ هذه النشأة؟ هذه الجيوش يمكنها ان تحقق مآربها من السلب والنهب والسبي والاعتداء على الاعراض (وقد حصل في بغداد كثيراً وتسبب بفتن ونزاعات سواء بين الناس والانكشارية او بين الانكشارية وقوى أخرى) وستبقى هذه القوى مشتتة ومتشرذمة وستكون بعيدة كل البعد عن أي دعاية إصلاحية تقودها للثورة على الحاكم. ولولا تحديث الأنظمة الأوربية وبدء تراجع هذه الجيوش أمام القوى الاوربية لكنا نسير اليوم في البلاد العثمانية وأمامنا خياران أحلاهما مر، عالم من العشائر المتنقلة، أو حياة في مدينة كبغداد السلطة العليا فيها لميليشيا مثل الانكشارية.
· الاحلاف مع القوى المحلية: لا يمانع العثمانيون من التحالف مع أي حاكم محلي قوي يثبت جدارته شرط أن يرسل لهم الضريبة وأن يعلن الولاء لهم، سواء كانوا من قادة العشائر أو من حكام المدن. وهكذا نشأت امارات كثيرة مثل امارة بابان او امارة المنتفق، يضمن العثمانيون بذلك ولاء هذا الشخص وعدم طموحه للمزيد وذلك بعد نيله الامارة. ولا يبالي العثمانيون فيما سيفعل الأمير بمن يحكمهم كما لا يبالون بالطريقة التي وصل بها إلى الحكم، المهم أنه أثبت جدارته وأعلن نفوذه على المكان.
· لا وجود للثقافة ولا للنخب الثقافية: اخذت النزاعات الفكرية الكثير من الدولة العباسية وهي في ريعان شبابها، اما كانت ستكون فكرة جيدة لو لم يكن هناك فلاسفة ولا نقاشات فلسفية ولا مؤلفات؟ ليس هذا من ذنب الدولة العثمانية بشكل عام، فالعالم الإسلامي وصل لتلك المرحلة من الركود قبل قيام الدولة العثمانية، لكن الدولة العثمانية بشكل عام لا تكترث بأي فكر، ولا تشجع سوى الطرق الصوفية، ولم يكن من مصلحتها ان تنتقل أي عدوى فكرية مجاورة (من أوربا مثلاً) كما حدث في آخر أيامها وكان ذلك ربما من أسباب سقوطها.
مع قيام التحديثات والإصلاحات في القرن التاسع عشر (والتي لم تقم إلا بدافع استعادة المكانة) فقد بدأ العد التنازلي لسقوط الدولة العثمانية وتمزقها. أدرك محمد علي أن هذا النظام لم يكن نافعاً وأن الجنود الفرنسيين حطموا تلك البنية العسكرية وجيوش الحثالات والمماليك بسهولة فكان من المطلوب أن يؤسس لتحديث مشابه. فهدد محمد علي الدولة العثمانية وتسبب في يقظتها. فبدأت النقاط أعلاه بالانحلال شيئاً فشيئاً، فالانكشارية ما عادوا صالحين كقوة عسكرية بل صارت القوة الانكشارية سبباً للمشاكل. وقبل الانكشارية كان الغضب يحل تدريجياً على الطريقة البكتاشية وكانت قرارات الحضر تصدر تدريجياً عبر القرون السابقة لتقييدها حتى تم منعها تماماً في القرن التاسع عشر، وبذلك انقطع الطريق على السياسة العنصرية في استقدام المماليك من الدول المسيحية وصار لزاماً على العثمانيين ان يجندوا أهل البلاد نفسها. ثم انتقلت العدوى الاوربية في النزعات القومية ونزعات التحرر وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير لينتهي ذلك العالم الهش المليء بالقراصنة وجيوش اللصوص والدول داخل الدول وانعدام القانون، لكن مع انهياره انهارت الدولة العثمانية التي ترتكز على كل هذا الخراب.
نشرته في فيسبوك في اكتوبر 2019 – وحذفته في 2023