التصنيفات
العراق عربي

سنوات ضائعة على التقويم

ربما يستطيع الكثيرون أن يفكروا بأيام، أسابيع، أشهر أو سنوات لم يفعلوا أي شيء خلالها، لا شيء على الاطلاق لم يعرفوا أشخاصاً جدد، لم يتعلموا شيئاً، لم يكسبوا مالاً او لم يدخروا مالاً، وفي بعض الأحيان لم يلتقوا بأي شخص على الاطلاق لاسيما حينما نتكلم عن بعض أنماط الاكتئاب أو حياة العزلة مثل الهيكيكوموري في اليابان. لكن لدى جميع هؤلاء والى حد ما الخيار في ذلك ما لم يكونوا سجناءاً في سجن انفرادي شديد القسوة. لكن ما صدمني حينما فكرت به لأول مرة هو السنوات الضائعة للملايين، حينما يفرض الضياع على البلد. أول مرة فكرت بهذا الأمر كنت في محادثة مع صاحب فندق صغير في تركيا، ذكر زيارته للعراق في الثمانينات وقد كان سائق شاحنة بين العراق وتركيا (رغم أن تركيا قد قاطعت مبيعات السلاح لكل من العراق وايران لكنها جنت أرباح هائلة من الطرفين عبر توريد السلع الاعتيادية).

فكرت رغم أنني لم أكن موجوداً في ذلك الحين، لكن كم من العراقيين يمكن أن يتكلموا عن تجربة لهم في ذلك العام الذي زار فيه هذا الرجل العراق؟ الشباب يتجهون الى الحرب، وافئدة عوائلهم معلقة بهم، اما من لم يذهب فقد كان لابد أنه خسر شخصاً، أو انه في طريقه للذهاب، أو أنه قد ذهب ونال حصته من الإعاقة ومتلازمة ما بعد الصدمة حينما ذهب وعاد. يمكن أن تأكل وأن تدرس ويمكن أن تتزوج لو كنت من الفئة النادرة المستثناة من تلك الظروف الحالكة، لكن بالنسبة لسكان البلد بأكملهم قرابة 20 مليون شخصاً لم يكن هناك سوى حدث واحد يغمر إمكانية عيش أي لحظة استثنائية بسلام. والسبب؟ فقط حماقة باهضة الثمن فادحة الخسائر لن يرى البلد النور بعدها لرئيس أراد ان يكون فاتحاً.

مرة أخرى فكرت بذلك كنت أمام مبنى في بريطانيا، كتب أنه بني عام 1995، أين كنا عام 1995؟ الكثيرين على شفير الجوع، البعض ماتوا جوعاً أو لشحة الادوية او تلوث المياه. وحتى لو توفر الغذاء الكافي لأحدهم في العراق في تلك السنة أو في منتصف الثمانينات، هل سيستطيع حقاً أن يعمل على مشروع فكري مثلاً؟ أن يستمتع بإجازة ما؟ في الحقيقة وجدت البعض ممن قد يكونون فاقدين للذاكرة في تلك الأيام ورغم معرفتي بأنهم خسروا اشخاصاً لكن يبقى هناك احتمالان، اما انهم ونتيجة لتلك الظروف يعانون من تشويش ما في الذاكرة، أو أنهم ببساطة اشخاص منفصلين عن المشاعر المحيطة وقد يكونون سيكوباثيين حتى. مع ذلك، فهؤلاء أيضاً لن يغيروا الكثير من الصورة. ولو تكلمنا عن الفئة الأقل تعرضاً للجوع في التسعينات مثلاً، ففي الحقيقة إن تلك الفئة تحرص على حماية موقعها وتذعر من الواقع ربما أكثر من المعدم الذي من الممكن أن يقضم الجوع أياماً من حياته أو أن يقضم حياته بأكملها في أي لحظة.

في السنوات الضائعة على التقويم هناك خوف كبير، خوف من الموت، قد يكون احتمالية أعلى بقليل من مخطط احتمالية الموت لكل منا فيما لو قارننا تلك الاحتماليات بنظيراتها قبل 400 سنة. يمكن أن تموت في الحرب، ليس هذه السنة بل بعد أن تكمل الدراسة الجامعية، يمكن أن تذهب للمجهول تماماً، ان تؤسر، يمكن أن تموت لأنك لا تملك نقوداً للدواء، يمكن ان يموت أطفالك بسبب سوء التغذية، يمكن أن تعتقل وتعدم لأسباب كثيرة يعدم من اجلها الناس، ويمكن أن يقتلك مجهولون فقط لأنك خرجت من البيت، وهذا ينطبق على سنوات الحرب الطائفية 2005-2008 التي ربما تفوق الظروف السابقة خوفاً نظراً لطبيعة المجهول وطبيعة الاعلام، رغم أن قتلى ما بعد الاحتلال الأمريكي لم يبلغ عُشر من قتلوا في سنوات حكم صدام حسين.

في السنوات الضائعة هناك تفكير في أدنى متطلبات هرم مازلو: الأمن والغذاء. مع شرط عدم توفر إمكانية الهروب دون مخاطرة عالية أيضاً أو استحالة الهروب تماماً. أما حين نقارن الأمر بمتطلبات الحياة الحديثة كالخدمات فلا حاجة لذكر الأمر. في تلك السنوات تستحيل أشباه المدن الحديثة -مدننا الصحراوية المليئة بالمساجد والبيوت- سجوناً قاسية، يمكن لمن يعيش خارجها أن يشعر بأمن أكبر، أن يوفر حاجاته بشكل أسهل، وأن يفكر بالهروب، لا يمكن أن يداهمه من يعرفون محل سكنه، ويمكن أن يجد طريقاً لن يضعوا عليه نقطة تفتيش حقيقية أو وهمية. والأهم من ذلك، هناك عدد أقل من البشر، ولا جحيم للإنسان مثل أخيه الانسان، حينما يشيع الخوف يغدو الجميع ضباعاً وذئاباً ونسوراً. ولعل مدننا فقدت الحكمة من وجودها منذ عقود، كلما كبرت كلما زادت مشكلاتها.

في السنوات الضائعة لا يبنى حولك شيء، فقط أشياء تهدم، لا يولد الكثيرون، ولو ولد أحدهم فستفكر ملياً هل سيعيش؟ هل سيعيش يتيماً؟ كيف سيعيش؟  هناك قليل من التنقل الى أي مكان، من كلفة التنقل، أمن التنقل، الهدف من التنقل.

في السنوات الضائعة من الصعب أن تكتسب أي مهارات مفيدة. الكثير من المهارات ستكون عديمة الفائدة، وحتى لا تنفع كمهارات أساسية للبقاء مما اعتاد الانسان في الماضي كالصيد والجمع والزراعة. انسان أشباه المدن ضعيف جداً ومقيد بتلك الجدران الساخنة والمظلمة التي انقطعت عنها الكهرباء، لا يستطيع حتى ان يعيد علاقته بالتراب. يتعلم اصلاح أجهزة انقرضت في أماكن العالم الأخرى، يطور مهارات الرشوة والاستجداء، وآخرون تتطور لديهم مهارات الوشاية ليسحقوا خصومهم بماكنة التعذيب والاعدام. وفي سنوات الطائفية تزدهر مهارات أخرى لتقرير من هم الأعداء ومن هم الأصدقاء، تصنيفات معقدة ودقيقة للمناطق والعشائر والعوائل كلها لا تنفع بأي شيء ولن تنفع كمهارة في أي بقعة من العالم، من الذين نكرههم ومن الذين نحبهم. وفي حالتي كنت أحاول النظر للطائفية كمشكلة، وأن أكون منظراً اخلاقياً لحلها، أحاول حل ما لا حل له.

كثير مما تعلمناه لن ينفعنا حقاً، كثير من افكارنا كانت خاطئة او غير مفيدة. البعض أدمنوا الوهم، خلقوا مفاهيمهم وصورتهم عن العالم المرعب المجهول الذي يعيشون به، بعضهم يتكلمون عن السياسيين كمن يتكلم عن الهة الرومان التي لا تعد مبجلة ولا تخلوا مغامراتها من صراعات داخلية بين الالهة لكنهم في الوقت نفسه مقتدرون. البعض الآخر طور مهارات تحليلية متقدمة جداً في نظرية المؤامرة. البعض أصبحوا مجانين بشكل رسمي، بعدما لفحت وجوههم النار، وتركوا لنا الأوهام ونحن نتوجس من لحظة الموت. أحد هؤلاء في التسعينات كان يسب صدام راكضاً في الأسواق القريبة من بيتنا، لا يجرؤ احد على أمره أو نهيه او الضحك على أي شيء يقوله، اعين الرجل الذي يعمل في الفرن تنبئ بالخوف وهو ينظر له، خائف مما سيؤول اليه حال المجنون بعدما رأى وتركه مجنوناً أم خائف لأنه يستمع لهذا المجنون ولا يعرف ماذا يفعل لعله يعاقب؟

الضباب يغطي التفكير تماماً. حينما أحصيت كتاباتي للسنوات العشر الماضية ورتبتها ونظمتها في ملفات، وجدت كم من الوقت قد ذهب وأنا في المتاهة الأكبر لتلك السنوات، لم أكن أفكر سوى بالمحيط. كانت لي بعض القراءات الدينية لكنها لم تكن الا كمساعدة للصمود امام ذلك الواقع. سنوات والجميع يفكرون بالطائفية، وبالمهارات المعقدة التي نتعلمها في السنوات الضائعة للبقاء على قيد الحياة.

هكذا ضاع الكثيرون في تلك المتاهة وبعضهم لم يخرجوا منها حتى الآن. لا يمكن أن تحل الطائفية، لم تحلها أي مجموعة بشرية اخرى، أوروبا التي ينظر لها البعض كمثل أعلى نفذت مجازرها الطائفية ووزعت البلاد على المذاهب واحتفظت بصيغة شديدة التوتر في الحوار الديني بين أي شخصين. لا عجب، وجدت الأوروبيين أكثر توتراً من شيعي أو سني طائفي وهو يحاورني، على الأقل الطائفي هذا متمرس على الحوارات كشيء يحقق به انتصارات محدودة أشبه بالفوز بالشطرنج.

المجموعة لن تعي. وهنا كان الوبال الأكبر الذي جلبه الأمريكان، ففي الماضي كانت سنواتنا الضائعة لا ينتابها الكثير من التفكير بالحلول (باستثناء حلول المشاكل اليومية)، فالطاغية الذي يحكمنا حالما سيزول سنصبح مثل دول الخليج وتنتهي القصة، هكذا كنا نتخيل. لكن عندما جاء الامريكان وجلبوا لنا الديمقراطية صارت الديمقراطية تلك مثل الابرة في كومة القش أو مثل الطحين المختلط بالرز. يجب عليكم أن تعثروا على الابرة، وستحل مشاكلكم، يجب فصل الطحين عن الرز، وستنتهي المشكلة. حتى الآن يفكر الملايين بالانتخابات والسياسة والحكم كحل وينظر الملايين أيضاً حول مشكلات الشعب التي يمكن إصلاحها عبر التعليم والتوعية والتثقيف وغيرها من المصطلحات الفارغة، لنصبح شعباً متعلماً أو واعياً أو مثقفاً. هل هناك شعب كهذا على الاطلاق في العالم؟

الجدل هو تيهنا الآخر، وهذه الورقة هي جزء من ذلك التيه، لحظة أخرى تدفع فاتورتها السنين الضائعة، نتجادل ونتناقش ونفكر حتى الآن بجميع ما مررنا به، ونفكر بذات الطريقة ونحيي ذات الحوارات العقيمة. ويلد الصمت المزيد من الحوارات العقيمة، حين لم يكن أحد يجرؤ على مناقشة شيء، يصبح موضوع الحوار لعقود قادمة. هل اقنعنا أحداً؟ هل انتصرنا بنقاش؟ هل غيرنا احداً؟ انها لعبتنا في السنين الضائعة فقط، أن نأخذ جانبين ونتناقش الى ما لا نهاية. وكم ضاع في نقاشات الطائفية بعد الاحتلال، ثلاثة ساعات متواصلة هي لا شيء امام بعض تلك النقاشات. وهل نناقش ذوي عقل؟ حتى هذه اللحظة النقاش الثاني هو هل صدام جيد ام لا. الوثنية وشارة الفريق هي كل ما يمتلكه البشر من الفكر وكل ما يختلفون به عن القرود، ولعل القرود أيضاً تميز فريقها برائحته أو سمة فيه.

الفائزون من بين كل ذلك الضياع هم قلة، أشعر أنني اقتبس روح أحدهم تقبع في ذهني وتذكرني كيف أفكر بهذا العالم، انهم من منحوا هبة السخرية من الواقع. من رحم المآسي التي عاشوها يستطيعون الضحك، يضحكون على أنفسهم قبل أي شخص آخر، الحياة سلسلة من المشاهد الهزلية بالنسبة لهم، حين يتعرضون الى تسلط احدهم او تجاوزه يصفونه بسخرية، حين يشعرون بالضعف امام ضباع العالم الساخن يسخرون من الموقف، حين يفشلون فيما لا يمكن أن ينجح فيه احد يسخرون أيضاً. سعيد أنني استطيع أن أفكر بالعالم مثل هؤلاء أحياناً. ولعلهم الفرقة الناجية من السنوات الضائعة، فقد خرجوا من كل ما فيها من مصاعب بمجموعة من الطرائف، حتى وان كانت من الكوميديا السوداء.

بعد كل ذلك، أظن أن التفكير للحظة واحدة بمتطلبات الحياة الأساسية واحتمالية فقدانها، أو بإمكانية الموت، هو رغم سوءه، لكن أثره قد يكون جيداً في الغالب. بالطبع، ليس إن استمر وصار جزءاً من الحياة اليومية فعندها لن يكون بعده سوى الانهيار نحو الاكتئاب او الدوامات الفكرية والقلق والتوتر. لكن بالنسبة لمن تركوا تلك الظروف، ما زلت أفكر، كيف كنت سأكون لو لم أمر بتلك اللحظات؟ الحكمة السائدة، ما لم تحطمنا تلك السنوات فستجعلنا أقوى، وفي حالتي فقد اكتسبت الامتنان وأرى الامتنان أيضاً لدى الجيل الأول من القادمين لبريطانيا من العالم الحقيقي (الثالث) مهما كانت أعمالهم وظروفهم، أدعوه الجيل الممتن، الجيل الذي سيكون ممتناً لأبسط التفاصيل كالشمس ونسيم الهواء. هناك من تعلم التسليم أيضاً، حينما تجد أنك لا تستطيع فعل شيء، سوى انتظار الغد.

اما من دام فيهم الضياع والعذاب فكثير منهم يصبحون كأهل الجحيم في الإسلام. واهل الجحيم في الإسلام يغدون – كما ينص الحديث – بالغي الضخامة، وجلدهم يبلغ قسوة شديدة (الا يفترض أن الجلود تبدل ليزداد العذاب؟). هكذا افكر فيمن سقطوا صرعى في المعاناة، من الممكن أن تموت وأنت تقضي نهاراً طويلاً كاملاً تحت الشمس بحرارة 55 سيليزية، لكن من الخطر أيضاً أن تستطيع العيش سنيناً طويلة ولبقية حياتك تحت هذه المعاناة وأن يبلغ ذلك حداً دون عتبة العذاب والألم لديك. بذات الكيفية، من السهل أن تموت في احد السجون العراقية بمختلف العصور، لكن ماذا لو عشت؟ كيف ستعيش؟ وهكذا أيضاً، كيف يعيش كثير ممن ما زالت سنواتهم ضائعة، وما زالوا يلملمون ادنى متطلبات البقاء ليجدوا انهم اضاعوها في اليوم التالي؟ ليس في العراق فحسب بل في كل انحاء العالم.

الأجيال اللاحقة في بريطانيا هي أول ما أفكر به حين أتذكر السنوات الضائعة حيث تتضخم مساحة المحن رغم تفاهتها وتصغر مساحة النعم الواسعة التي يعيشون بها، لأن هذا هو نطاق ما رأوه. هل أحاول التخفيف عن المأساة؟ كلا لا توجد أي مأساة، بل رغم سوء سنواتنا الضائعة ورغم أنها ببعض المقاييس اسوء من حياة الاقدمين لأننا نعيش في جحيم مضاعف في اشباه المدن، لكن تلك المعاناة هي ما ننتمي لها كبشر وهي ما صنعنا لنواجه ونتحمل ونعيش بشكل صحي نفسياً.

في النهاية، غرقنا بالجوع والخوف من الموت فضاعت سنواتنا، لكن أحياناً نجد الأمر ذاته يتطور كنموذج في العالم. ها قد أضاع العالم الغربي سنتين من تقويمه، ولم يتنعم الناس حتى بالشمس التي امتن لرفقها. لماذا؟ لسبب مصطلنع بالغ التفاهة لو قورن بالحياة اليومية في العالم الحقيقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *