اثناء حكم عمر باشا في سبعينات القرن الثامن عشر برز شخص يدعى عجم محمد (لفظ تركي لـ محمد العجمي) ويقال أنه صعد بين المماليك عن طريق مرافقته لأمه وأخته الراقصتين. مضت الأيام وشكل عجم محمد حالة تشبه واقع الميليشيات في العراق اليوم حيث كان يأخذ الأتاوات ويعتدي على التجار والأغنياء ويجمع في نفس الوقت عدداً كبيراً من الحثالات المستعدين للقتال معه.
مما قيل عن عجم محمد:
“جاء الى بغداد ، وكان معه والدته واخته ، وهن راقصات يرقصن عند نساء الاكابر ، وهو صغير لا نبات بعارضيه ، قيل انه كان يكتسب بالمؤآجرة ، يؤآجر نفسه لمن اراد ، وكان اذ ذاك امرد جميلاً ، وكان مجيؤه الى بغداد في ايام المرحوم سليمان باشا فأقتدر من التمويه على عقد لو اجتمعت السحرة لاعيتهم الحيلة ، ولو حشر المردة على فلها لاعمتهم مكايده العريضة الطويلة ، قد ارتكب من الشر ما لا يتحلى بمثله من له من الحياء في وجه نضارة ، ومن النفاق ما لا يرضى” (تاريخ حوادث بغداد والبصرة)
مع مجيء عبدالله باشا للحكم بعد مصطفى باشا فرح الناس بأن أيام عجم محمد قد انتهت، غير أنه أبقاه بمنصب آخر (خازندار)، واستمر نفوذه بالتزايد حتى وفاة عبدالله باشا، تنازع النائبان الموجودان على منصب الوزارة (ولاية بغداد) بعد وفاة عبدالله باشا وعندئذ اشتعلت حرب شوارع في المدينة لمدة أشهر بين عجم محمد من جهة والكتخدا (النائب) الآخر اسماعيل الكهية (كهية هي نفسها كتخدا)، وكان عجم محمد هو الآخر قد أصبح محمد الكهية (النائب). المدفعية والمتاريس في الشوارع، ولعجم محمد تأييد كبير من العوام من أهل الميدان والفضل وكل مناطق الرصافة داخلة بالنزاع، والكرخ معتزلة للتدخل لكن قذائف المدفعية طالتها من عجم محمد.
تدخل سليم أفندي الذي أسند اليه اختيار الوزير القادم فأمر كل من النائبين بالتوجه إلى كركوك والاقامة تحت حسن باشا والي كركوك، ففعل ذلك اسماعيل الكهية ورفض عجم محمد. ومن هنا بدأ صراع جديد بين سليم افندي وعجم محمد. وظهر في تلك الفترة وسيط آخر وهو شخصية عربية “سليمان بك الشاوي” (شيخ العبيد المقربين من الدولة). وقد أثار انتباهي نظرة أهل بغداد في حوارهم مع سليمان بك الشاوي، إذ قال لهم أن عجم محمد أعجمي وسينحاز لقومه (وقد كانت آثار الحرب مع كريم خان زند في الأفق)، فقالوا لقد جاء الروم بخمسة وزراء من العجم فليكن هذا سادسهم، فقال بل سبعة وهذا ثامنهم (ويقصد تشبيهه بالكلب في سورة الكهف).
ما أثار الانتباه هو أن الولاة السابقين لم يكونوا من الايرانيين أو الفرس بل كانوا من الروم من سكنة اسطنبول أو من الجورجيين، فعبدالله باشا كان رومياً وعمر باشا كان جورجيا ومصطفى باشا الاسبيناقجي (بائع السبانغ) كان من أهالي اسطنبول وعبدي باشا كان شركسيا او البانيا لكنه لم يكن ايرانياً. نرى من ذلك أن النظرة للأعجمي لدى هؤلاء العوام لا تفرق كثيراً بين الايراني وغيره لكن نظرة سليمان بك الشاوي ونظرة المماليك والحكام كانت مختلفة فالترك ما زالوا يسمون الايرانيين بالعجم، لكن يبدو أن أهالي بغداد كانت لهم النظرة العربية التقليدية عن الاعجمي بأنه كل من ليس عربياً.
في هذه الأثناء اسندت ولاية بغداد إلى حسن باشا والي كركوك وشهرزور، وجاء إلى بغداد وأهمل عجم محمد الذي كان متحصناً في القلعة، لكن مع ادراك عجم محمد أنه مهمل ولن ينال شيئاً فقد واصل الحرب والتخريب في المدينة وأعلن الحرب على الوالي الجديد.
يظهر من توازن القوى أن الوالي كان ضعيفاً جداً ولم تكن قوة المماليك كافية فاستعانة عجم محمد ببعضهم وبأهالي بغداد والتفاف جزء كبير من جيشها حوله لم يبق للوالي الكثير. حتى جائت عشيرة العبيد الذين استدعاهم سليمان الشاوي والأكراد من بابان (أعداء الأمس وحلفاء كريم خان زند) وعشيرة الكيكية الأكراد وهنا خرجت قوات عجم محمد لتواجههم قرب الخالص وانتصر جمع الأكراد والعبيد واستقرت الأمور في بغداد أخيراً بعد أن أرهقت حرب الشوارع الناس أشهر طويلة.
سليمان بك الشاوي
ارتفع دور الشيخ سليمان بگ الشاوي بعد دوره ودور عشيرة العبيد في دعم سلطة الدولة ضد عجم محمد وعوام بغداد، وكنتيجة فقد شعر سليمان باشا والي بغداد وحاشيته من المماليك بالخطر من وجود شخصية مثل سليمان الشاوي. نتيجة لذلك، فقد تم اقصاء الشيخ تدريجيا ووصل الامر الى الخلاف الذي ادى به الى ترك بغداد.
اقام سليمان الشاوي بعد ترك بغداد في عگرگوف (كان هناك هور في وقتها هناك)، وزاد المماليك من تأليب الوزير سليمان باشا عليه اذ ابلغوا انه يجمع القوات ليحتل بغداد، فطاردوه بمعية الاكراد حتى اجبروه وعشيرته العبيد على اللجوء الى منطقة قرب الخابور.
غير ان الشيخ سليمان الشاوي لم يتوقف، فأرسل ابنه احمد بگ على رأس قوة نحو بغداد ونجح بدحر العثمانيين في الفلوجة ثم في الكاظمية، غير ان المفاجأة التي كانت تنتظره كانت مفاجأة عربية، حيث ساند بنو عقيل الدولة وهم العشيرة الراسخة في كرخ بغداد منذ امد بعيد. حيث استطاع بنو عقيل دحر العبيد وتشتيت فلولهم.
ايضا لم يستسلم سليمان بگ الشاوي في ثورته فاتفق مع العشيرتين المستعدتين دوما للتمرد، الخزاعل والمنتفق. لم يبد اثر مساندة حمد الحمود شيخ الخزاعل اثر قيام التحالف، غير ان ثويني شيخ المنتفق خطف الانظار من حراك سليمان الشاوي من خلال احتلاله للبصرة وجسامة التهديد الذي احدثه.
تطلب ذلك من الوزير ان يستعين بالاكراد لقمع الثورة كالعادة، وقد تم دحر المنتفق واحداث مجزرة كبيرة في قواتهم.
المفاجأة الثانية كانت انه وبعد تشتت الانظار عن سليمان الشاوي والتركيز على حليفه فإنه وافق على الصلح وعاد للسكن في بغداد واستعاد املاكه بعد ان قتل المئات او الالاف من عشيرته ومن حلفاءه.
العبر
اولا، يحاول عباس العزاوي ان يسبغ صبغة الثورة الوطنية او الحراك العربي على حركة الشيخ سليمان الشاوي وحلفه مع المنتفق والخزاعل غير ان موقف الاكراد وموقف عقيل وموقف سليمان الشاوي الاخير بقبوله الصلح، كل ذلك يجرد الحراك من اي قيمة وطنية بالمفهوم الحالي ويوضح انه ليس له أي بعد سوى مصالح شيوخ العشائر.
ثانياً، يهمل المؤرخون عادة اي ابعاد سوى البعد السياسي للاحداث، لكن شخصيا ارى الموضوع مرتبط بشدة بالمجاعة التي كانت مسيطرة على العراق في تلك السنوات وكالاتي:
- التخلي عن سليمان الشاوي من قبل الوالي لم يكن مجرد وشايات ونميمة، بل يرتبط بقلة الموارد التي دعت الوزير للتخلي عن حليف هام في بغداد وقلبه الى عدو وذلك لعدم وجود ما يكفي من موارد لدعم رجاله.
- طلب الدعم من الاكراد مرتين، غير أنهم لم يقدموا ما يكفي من القوات في المرة الاولى مما ادى الى عزل امير بابان وامير باجلان (فتاح باشا) واستبدالهما بامراء من اقاربهما. التقاعس من قبل الاكراد في عدم جلب القوة الكافية ذكر بانه كان مرتبطا بسوء تقييم متطلبات الغزوة من عدة، والذي يرجع برأيي الى الفاقة والعوز نتيجة المجاعة المحدقة بالبلاد.
- تمرد المنتفق هذه المرة لم يكن التمرد الاول بسبب المجاعة وضعف الموارد، فلم يكن حكم البصرة امرا مغريا بقدر سلب اغنياءها المعدودين وفرض الاتاوات عليهم بدلا من الدولة.
مقتل سليمان بك الشاوي
في نهاية القرن الثامن عشر، قتل سليمان بگ الشاوي مغدورا من اقاربه وهاربا من الدولة لالتزامه بمبادئ العرب في صون الضيف والدخيل.
قدم اليه من ايران عجم محمد بعدما ضاقت به السبل، فاستضافه فأمره الوالي سليمان باشا بتسليمه فرفض واخذه وهرب من قوات الوالي التي استولت على امواله. يقال انهم غنموا منه ٤٠ الفا من الانعام (مع اخذ المبالغة بنظر الاعتبار). وقد تفضلوا عليه بأن لم يأسروا ويسبوا نساءه وذريته. هرب نحو الزاب وهناك غدر به اقاربه وقتلوه. بخلاف قادة العشائر الاخرين، كان سليمان بگ مثقفا، وميالا الى السلم. لكن اقلام العرب قبل العجم تناولته بعد سيوفهم وذكرته بالسوء.
من قرائتي عنه في العراق بين احتلالين اجد نفسي متفقا مع عباس العزاوي في وجود ميزة لهذا الرجل. رفض العزاوي ان ينقل ما كتبته اقلام السلطة في وقتها مفضلا الاحتفاظ بالشيخ سليمان الشاوي كرمز وطني.