من الصعب الحكم بالنفي القاطع على ما يصفه علي الوردي من مشاريع بناء المدن العراقية في الجنوب لتوطين البدو والتخلص من مشاكلهم، ولو تم ذلك فعلا لكان مما يحمد في حكم العثمانيين.
غير ان سرد كل من سليمان فائق المعاصر لتلك السنوات وعباس العزاوي يخلو من اي وصف دقيق لحدث جسيم كهذا سوى حدث بناء الناصرية او بالاحرى تخطيطها فقط على يد المهندس البلجيكي، وليس الهدف من ذلك توطين البدو فالمنتفق متوطنون ومستقرون لكن الهدف هو اذابة حكمهم الذاتي تدريجيا والغاءه عبر تغيير مركز النفوذ الى مدينة جديدة.
قد اعود لقراءة تلك المرحلة من التاريخ لدى علي الوردي لعلي اجد تعبيرات اخرى تسعف موقفه، فهو يحاول ان يملأ فجوة تاريخية بهذا الافتراض، وبالفعل فهناك فجوة، فجأة في القرن التاسع عشر تحولت العشائر من حالة الضراوة والبداوة المطلقة الى انماط اكثر استقرارا في الدغارة وسوق الشيوخ والعمارة وكانت انوية المدن العراقية تتشكل حول مراكز الجيش العثماني كما حدث في العمارة.
لقرون من تاريخ العراق الحديث لم اقرأ عن مشاريع ري، حتى مجيء الوالي رشيد باشا الگوزلكلي (اول من لبس النظارات في العراق) في خمسينات القرن التاسع عشر. لم تكن مشاريع الوزير مبهرة بل كانت محاولات منه لتحويل زراعة الرز الى منطقة النهر الذي قام بحفره لكي يجمع الضرائب بشكل اكبر من الناس. المهم في الامر هو عودة الزراعة الى الساحة فجأة، ولا ادري هل هو اهمال من المؤرخين في تدوين حوادث ذات صلة ام ان مانعا مناخيا كان يحول دون قيام زراعة ناجحة للفترة السابقة.
ما يغيب عن علي الوردي في لمحات اجتماعية حول قضية نشوء او انشاء المدن في القرن التاسع عشر او ما لا يوضحه هو الية التحول الذي جرى. اسلفت ان الدولة العثمانية لم تقم بجهود فعلية لتوطين البدو (وليس كما يصف ذلك علي الوردي) بل قامت بخطوات ادارية ساعدت في اسكان العشائر وتثبيتها في مواضع وتحولها من الرعي والسلب الى الزراعة،اهم خطوة هي تفويض مساحات كبيرة من الاراضي الاميرية للشيوخ شرط تعهدهم بزراعتها، والاراضي الاميرية هي ملك عام لبيت مال المسلمين او ملك للسلطان.
من ذلك حادثة شيخ عشيرة البو محمد عام ١٨٧٨م شياع الفيصل الذي تمرد على الحكومة ثم عاد للعراق ويذكر انه “تعهد بأن يشتغل في الزراعة” ضمن شروط العفو عنه. يرتبط الامر بنظري بعامل مناخي اعاد للزراعة مكانتها فجأة بعد قرون من الاندثار، صحيح ان بعض الولاة قاموا بانشاء مشاريع للري مثل نامق باشا، لكن لماذا لم يقم الاسبقون بالامر نفسه؟ بالطبع ليست تلك المشاريع البسيطة هي ما احيا الزراعة وبالتأكيد ليست الاصلاحات الادارية ذات الطابع الاوربي هي السبب، كما لا يمكن ان تصحو عشيرة ما ذات نمط حياة معين لتجد نفسها في نمط اخر.