يعد كتاب عباس العزاوي أحد الكتب المهمة في تاريخ العراق الحديث وبعد قرائتي له، أجد أن حيادية الرجل في نقل المعلومات تجعل كتابه لا يقل أهمية عن مصادر التاريخ الأساسية بل يزيد أهمية على ذلك بتنوعه الشديد في المصادر واقتصاره على النقل دون اقحام آراءه وتحليلاته الاجتماعية. مع ذلك، لا يمانع الرجل في ذكر تفضيلاته لأحوال معينة على أحوال أخرى وهذا مهم جداً في قراءة سلم الأولويات وطبيعة الفهم السياسي والاجتماعي لرجل مثقف من بداية القرن العشرين وحتى منتصفه.
على الطرف الآخر أعود بالذكرى في كل معلومة اقرأها إلى علي الوردي ولمحاته الاجتماعية في تاريخ العراق الحديث، وأجد نفسي في النهاية مرجحاً لكفة عباس العزاوي وبجدارة ومكتشفاً اختلالات كثيرة في طرح علي الوردي الذي أثقلت موضوعيته بالآراء الاجتماعية ومحاولة فرض صورة معينة على التاريخ.
خلاصة ستة قرون
تمكن الخلفاء العباسيون من استعادة النفوذ من السلاطين الأتراك وأسسوا كياناً متواضعاً يشمل العراقين (عراق العرب وعراق العجم) في الفترة الأخيرة من الدولة العباسية ويمكن ملاحظة السور الحالي والبناء المسمى بالقصر العباسي حالياً في بغداد مما يعود الى تلك الفترة. كان الخليفة أيضاً محاطاً بعدد من المشاورين والقادة الاتراك وكانت الوزارة تسند إلى الشيعة في تقليد مستمر خلال تلك الفترة. آخر هؤلاء الخلفاء كان الخليفة المستعصم وكان ممن استغرق في لهوه واساء السياسة واخذ المشورة السيئة فنكث بمساعدته للمغول في محاربة الإسماعيلية بعدما دعاهم لذلك ووعد بمساندتهم ثم اساء المراسلات وارسال الهدايا اليهم فتفاقم الوضع واعد المغول العدة للمسير الى بغداد.
المغول
حقق جيش بغداد انتصاراً بسيطاً أمام المغول، وهزم امامهم أكثر من مرة قبل أن يصبح المغول على أسوار المدينة، وبعد مقاومة ضعيفة استطاع المغول اقتحام المدينة وأحدثوا مجزرة دامت 10 أيام. يتخلل ذلك الكثير من السلب والنهب وتعذيب الناس لنزع الاعترافات منهم حول مواضع خزن أموالهم. أما المناطق الآمنة فكانت مقتصرة على بيوت عدد من المسؤولين وبيوت المسيحيين وكنائسهم. أعيدت بعدها حكومة بغداد من دون الخليفة الذي قتل بعد أسبوعين من الاعتقال، ودفن في الاعظمية. لم يثبت تعاون الشيعة مع المغول، بل احرق المغول مرقد الامام الجواد، وقتلوا الشيعة مثلما قتلوا السنة ولم يأمنهم سوى المسيحيون، بل أن المغول قتلوا أشخاصاً اعطوهم الأمان ولجأوا الى نصير الدين الطوسي فلم تنفعه شفاعته شيئاً.
استمرت سلطة المغول تحت حكم هولاكو، وصار العراق تابعاً لمركز الدولة الايلخانية الغربية في ايران، وكان يعين على العراق حكام من الفرس. يذكر عباس العزاوي بعض ميزات تلك الفترة مثل عدم اثقال الناس بالضرائب واحترام العلماء والتسامح الديني. ثم أسلم السلطان محمود غازان حفيد هولاكو الذي فرض لباسا يميز المسيحيين واليهود. كما أعاد المساجد التي حولت الى كنائس وهدم وأخذ كنائس أخرى.
حكم بعد ذلك خدابنده جايتو خان، وانقلب الى التشيع وعمت الثورة في بغداد وشيراز واصفهان بعد الأوامر بتغيير السكة والآذان، واستمر جايتو خان بعدها في محاولة للموازنة بين المذهب الذي اعتنقه ومذهب الناس.
تقوضت بعد ذلك سلطة سلالة جنكيز خان وظهر أحد القادة المغول في ايران متحالفاً مع القبائل التركمانية وهو الشيخ حسن جلائر، الذي أسس دولة تشمل العراق وأيران. وشهدت فترة الجلائريين استقرارا نسبياً ومن آثارها في بغداد اليوم، خان مرجان وجامع الوفائية وجامع العاقولي فضلا عن آثار أخرى.
في تلك الفترة كانت الامارة العثمانية ناشئة وتستقطب الهاربين من الإسماعيلية ومن فرقة الحروفية وغيرها بعد تقتيلهم من قبل المغول وعمال المغول.
من الجلائريين وحتى الصفويين
السمة السائدة لفترة الجلائريين كما هو الحال مع فترة الايلخانية كثرة النزاعات حول السلطة والتي تؤدي الى تخلخلها وصعود أطراف أخرى. وهذا ما حدث اذ استطاع القره قويونلو (الترجمة الحرفية سود الخراف أو الأشخاص الذين لهم خراف سوداء) ان يرثوا سلطة الجلائريين على عراق العجم وتبريز ودياربكر وبغداد. وكانت تلك الفترة من الفترات الحالكة في تاريخ العراق وكان التدوين فيها قليلاً جداً.
ومما أصاب العراق في أواخر حكم الجلائريين الطاعون الذي ضرب العالم القديم بأسره المعروف بالموت الأسود (1348-1349) ويقال انه قتل نصف البشر في العراق آنذاك.
بالتوازي مع ظهور القره قويونلو في الجزء الشمالي من العراق فقد سيطرت عائلة المشعشع على جنوب العراق، والتي ربما لها الدور في تحويل الجنوب العراقي الى التشيع اذ كانوا يمتحنون فقهاء السنة ويطردونهم من البصرة والكوفة وغيرها. واستمر المشعشعون بالحكم حتى مجيء الصفويين الذين قاتلوهم ثم صالحوهم وقلصوا نطاق حكمهم ثم ازيحوا لاحقاً.
ظهور تيمورلنك في العراق لم يكن يحمل صفة التوسع الامبراطوري، بل صفة السلب فقط، فرغم انه طغى على المنطقة بأكملها وغلب الامارة العثمانية أيضاً، لكنه لم يبق طويلاً وعاد القره قويونلو بعده للسلطة. بالمقابل فإنه انشأ سلطانه وامبراطوريته في مناطق وسط آسيا.
ومما أصاب الناس ببغداد في تلك الحقبة المجاعة اثناء نزاع بير بوداق الأمير التركماني مع والده جهان شاه، كما كان سلب الأموال مستمراً داخل وخارج السور، وكانت تلك من الأيام الأخيرة للقره قويونلو قبل أن يظهر عليهم حسن بيك الطويل.
في عام 1468 حاصر حسن بيك الطويل – مؤسس سلالة الآق قويونلو – بغداد وفشل حصاره لينتهي بسبي الناس القاطنين خارج السور وأخذهم لعاصمته دياربكر. وفي السنة التالية وفي الطريق لحصار ثاني لبغداد انقلب عساكر القره قويونلو على منصور شاه زينل آخر الحكام من العائلة تلك لتسلم بغداد الى جيش خليل بيك المكلف من قبل حسن بيك الطويل.
الاحتلال الصفوي الأول
في تلك الفترة كان الصفويون يشكلون دويلة صغيرة قرب تبريز وكانت متآلفة مع الآق قويونلو، تحولت الطريقة تدريجياً الى التشيع مع الحفاظ على ملامح التصوف. ومع استمرار الآق قويونلو في مسيرة مشابهة للعوائل التي سبقتهم في النزاعات الداخلية، تمكن الشاه إسماعيل الصفوي من التوسع على ركام هذه الدولة قصيرة الأمد، واستطاع ان يحتل العراق وايران.
في بغداد، هدم الشاه إسماعيل المراقد المقدسة لدى أهل السنة وقتل كثيراً منهم وبشكل رئيسي العلماء والطبقات البارزة في المجتمع. كما انهى الصفويون سلطة المشعشعين في العراق الحالي وجعلوها مقتصرة على الاحواز فقط.
الاحتلال العثماني في القرن السادس عشر وما بعده
وما هي الا سنوات حتى غزا السلطان سليمان القانوني عام 1534 تبريز وعراق العجم وبغداد ونكل بالصفويين وأخذ زوجة الشاه إسماعيل حتى. كان العثمانيون في اول مجيئهم قوة متقدمة في معايير عصرهم وقد ذهل الناس لرؤية المدافع والتجهيزات العسكرية، كما لم يكن نظام السلب والميليشيات العشوائية سائدا بل كان للجيش ارزاق ورواتب في وقتها. عمر السلطان المراقد وحفر نهر الحسينية وانشأ نظاماً لتسجيل الأراضي وغادر العراق.
خضع العراق لفترة استقرار وهدوء نسبي في القرن السادس عشر ولم يكن من الاحداث في الساحة سوى محاولات العثمانيين للسيطرة على البحار والتي انتهت بفشلهم وتمكن البرتغاليين من اكتشاف طريق الهند الذي حاول العثمانيون أيضاً عرقلته والوصول الى الهند غير أن مساعيهم بائت بالفشل. لكن ذلك أعطى للبصرة بعضاً من الأهمية والحركة الاقتصادية بعد قرون من الإهمال.
العراق في نهاية القرن السادس عشر
مع نهاية القرن السادس عشر بدأت أولى القلاقل العشائرية بالظهور، لاسيما ثورة آل عليان في البصرة والتي قمعت بالانكشارية وبالعشائر العربية والكردية. ولم يكن ذكر العشائر وارداً في الدول والفترات السابقة، رغم أن جنوب العراق مغيب كلياً عن الاخبار لما يزيد عن قرنين منذ بداية نفوذ المشعشعين. بالإضافة الى ضعف التدوين في فترة القره قويونلو والآق قويونلو واهمال العراق مما يجعلنا بمعزل عن معرفة التغير الذي حصل والذي دعا لظهور نزاعات العشائر فجأة في ذلك الوقت.
بكر صوباشي والاحتلال الصفوي
انتهت فترة الهدوء النسبي بتمكن بكر صوباشي من بسط نفوذه في بغداد وتجاوز نفوذ ومكانة الولاة، حتى اعلن التمرد على العثمانيين وراسل الشاه عباس الذي شرع بحملة تحديث في ايران وقلب النظام من نظام طريقة صوفية تساند بالعشائر التركمانية الى دولة حديثة. وانتهى الامر بعد نزاعات عديدة وتقلبات كثيرة في المواقف بمجيء الجيش الصفوي واحتلال بغداد عام 1623. استمر الاحتلال الصفوي الثاني حتى نهاية ثلاثينات القرن السابع عشر، ونجى أمام ثلاثة حصارات، اختتمت بحصار ضخم يقوده السلطان مراد استعاد على أثره السيطرة على بغداد. تبع ذلك معاهدة زهاب، التي رسمت حدود العراق الحالية مع ايران الى حدٍ ما.
ولاة العراق حتى القرن الثامن عشر
منذ دخول السلطان سليمان الى بغداد ١٥٣٤ م حتى عام ١٧٠٥ حيث تولى الحكم حسن باشا الايوبي، تناوب على العراق عدد كبير من الولاة لم يدم منهم احد اكثر من ٣ سنوات الا نادرا، معظمهم كانوا من الاجانب روم، بوسنة، جورجيا وغيرها. لكن اغرب ما لاحظته ان قلة قليلة منهم كان متزوجا او له ذرية. تنشئة هؤلاء كانت تتم في البلاط العثماني مع تعليم جيد وتدريب عسكري بغرض اعدادهم كولاة، بعضهم من المختطفين وبعضهم ممن ارسله اهله.
جنوب العراق في نهاية القرن السابع عشر
سيطرت العشائر كليا على جنوب العراق عموما والبصرة بالتحديد في نهاية القرن السابع عشر، وكان الشيخ مانع شيخ المنتفق على رأس هؤلاء. في عام ١٧٠٠ سير السلطان حملة كلف بها والي حلب ووالي بغداد والحق بهم والي دياربكر وسيواس ومتصرفي اماسيا وقره مان ومحافظ شهرزور وامير العمادية وامراء مرعش وعنتاب وعشائر الكرد وباجلان والبيات وبدرة ومئات المدافع وعشرات السفن. ونجحت الحملة لكنها أوضحت تقدم وضع العشائر الى مرحلة جديدة.
الامارات العراقية والولاة
تبع تلك الحرب حرب أخرى مع الشيخ مغامس شيخ المنتفق، وبعدها اتفق العثمانيون مع ابن عم الشيخ مغامس لتبدأ مرحلة امارة المنتفق في جنوب العراق ولتتضح معها ملامح امارات اخرى منها ما ثبت لعدم أهمية الأرض مثل الامارات البدوية في نجد والاحساء والكويت ومنها ما الغي بحكم الأمر الواقع وقوة نفوذ الدولة العثمانية مثل المنتفق وبابان.
قرر العثمانيون ايضاً ان يغيروا نمط ولاة العراق فأرسلوا حسن باشا وهو من عائلة اسطنبولية معروفة ليكون والياً على العراق وليؤسس أسرة انتهت فيما بعد لتسليم النفوذ للمماليك في نهاية القرن الثامن عشر.
سقوط الدولة الصفوية
في عشرينات القرن الثامن عشر، سقطت الدولة الصفوية على يد الأفغان، ووجد والي بغداد احمد باشا الفرصة مواتية للتوسع، فدخل واحتل عراق العجم وخرق معاهدة زهاب وساهمت العشائر العراقية في الحملة ونهبوا وسلبوا وسبوا النساء وساند الغزوة فتوى من إسطنبول تكفر الشيعة. غير أن الرد جاء بعد تسلم نادر شاه للحكم والذي استعاد كافة المناطق التي احتلها العراق ورد بمحاصرة بغداد حصاراً قوياً اكل الناس على اثره الجيف وذلك عام 1733.
غزو الدولة للعشائر
لم ينقطع الولاة في القرن الثامن عشر عن غزو العشائر في حالات بدت أحيانا غير مبررة والواقع انها عمليات سلب ونهب فقط منهم. فيما كان هناك عشائر أخرى تساند الدولة في حروبها فلا تأخذ منها الدولة الاتاوات بالمقابل.
غزوة كريم خان
ولم يكد القرن الثامن عشر ان ينتهي حتى حلت في السبعينات منه غزوة كريم خان الزند ردا على تضييق العثمانيين على الزائرين الإيرانيين. غير أن تلك الغزوة لم تكن كسابقتها (غزوة نادر شاه). وانتهى القرن الثامن عشر أيضاً بسقوط البصرة ثم استعادتها من الإيرانيين بشكل سلمي، كما حدثت في نهاية سبعينات القرن الثامن عشر حرب شوارع في بغداد بسبب الشخص المعروف بعجم محمد وهو من المقربين من المماليك ثم انقلب عليهم.
سليمان بگ الشاوي
مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بدأ تهديد الوهابيين في نجد بالظهور، جهز العراق حملة قادها علي باشا لاستعادة الاحساء منهم ففشلت ثم استعاد العراق الاحساء بعد ان اسقط محمد علي الامارة السعودية. وبقيت العلاقات مع السعوديين وكأنها العلاقة بأي امارة عشائرية أخرى، غير أن العثمانيين فضلوا آل رشيد عليهم في نهاية القرن التاسع عشر.
المماليك
في فترة المماليك منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى انتهاءها في عشرينات القرن التاسع عشر كان المماليك يبلغون إسطنبول بالوالي الذي اختاروه وكانوا يرسلون الضرائب لاسطنبول، غير أن توسعهم باتجاه ماردين وديار بكر اقلق إسطنبول. وليس للعراق حواجز طبيعية تساعد حكوماته سواء بوجه ايران او الاناضول فانتهى حكمهم. كانت في اثناء ذلك الامارات الكردية في بابان والعمادية قائمة، وكذلك امارة المنتفق والامارات في الاحساء ونجد التي سقطت بيد السعوديين ثم عادت. والمماليك معظمهم من الجورجيين ثم من الشركس، وهم يمثلون امتداد لسياسات جيوش العبيد التي يقتنيها الولاة والحكام لتعزيز حكمهم. ولم تخل فترة المماليك من النزاعات الداخلية مثل الحرب مع المنتفق بسبب حماية احد أبناء المماليك ومن ثم حصار بغداد على يد داوود باشا.
في اثناء حكم المماليك سببت امارة بابان اكثر من ازمة مع الإيرانيين وصلت الى التحشيد والقتال ودخل الإيرانيون مرات عديدة ثم انسحبوا. لذا كان انهاء الامارات هذه على رأس سلم أولويات إسطنبول عندما استعادت النفوذ الكامل على العراق.
منذ سقوط المماليك وحتى داوود باشا حكم العراق ولاة عدة، اصعب الفترات كانت بحكم والي حلب علي رضا باشا اللاز الذي اسقط حكم المماليك، اذ تسلط على الناس مجموعة من زبانيته الذين كانوا يسلبون أموالهم ويعتقلونهم ثم يطلقون سراحهم بفدية.
بعد ذلك بدأ شيء ما بالتغير في العراق وبدأت الزراعة تزدهر من جديد كما بدأت القوانين تسن على غرار ما في الدول الغربية ويظهر بعض من ذلك في العراق أيضاً، كما ظهرت الطباعة وصارت هناك صحافة مطبوعة في العراق توفر مصدر جيد للمعلومات حول تلك الفترة.
نهاية الامارات العراقية
مع بداية سبعينات القرن التاسع عشر تم القضاء على امارة المنتفق بتحويلها الى متصرفية وبتأسيس مدينة الناصرية. كما انهيت قبلها كافة الامارات الأخرى وكانت الكويت قد نالت الحماية البريطانية قبل ذلك فكان بمثابة الاستقلال لها.
ولاة ما بعد المماليك
مستوى الولاة بعد فترة المماليك كان أفضل، وكانوا من المتعلمين في أوربا، غير أن الجيش كان ضعيفاً وقليل العدد ولم يكن قادراً في أحيان كثيرة على ردع العشائر. وأبرز العشائر المخربة في تلك الفترة كانت عشيرة الهماوند المتنقلة بين الحدود العراقية الإيرانية. وقد استقرت هذه العشيرة لاحقاً في مطلع القرن العشرين بمدينة جمجمال الحالية والتي تحمل اسم المكان الذي جاءوا منه من لرستان في ايران. استمر الوضع على هذا المنوال مع إصلاحات طفيفة وبناء متواضع للمنشآت والمؤسسات حتى احتلال العراق من قبل الانجليز عام 1914.
الاستقلال
لدى عباس العزاوي نظرة للاستقلال ترتبط بالوقت الذي عاش فيه ولا تتمثل بالمفهوم الحالي بحكم أهل البلد لأنفسهم، فما الضير باستقلال محمد علي بمصر مثلاً؟ ألا يُعد التقدم الحاصل فيه نسبياً افضل من معظم فترات تاريخ مصر الحديث؟ استقلال الولاة بالعراق بالنسبة لعباس العزاوي أمر مقبول، لكنه يستحسن بعض ثورات العشائر ويرى فيها بادرة للاستقلال ويحاول أن يسبغ عليها النزعة الوطنية او أن يسبغ عليها مفهوم الاستقلال الذي لم يكن رائجاً في تلك الأوقات فما بالنا بالمفاهيم الموجودة لدى العشائر؟ يبدو أحياناً من استحسان عباس العزاوي أنه يفضل النوع الثاني من الاستقلال على النوع الأول.
لم أجد في الفترات الأقدم مثل الفترة الجلائرية اهتماما من العزاوي بهذا البعد، لكنه في الوقت نفسه لم ينظر بشكل سلبي لتلك الفترة. وبالمقابل فإن صغر مساحة نفوذ القره قويونلو وشمولها نصف العراق الحالي لم يجعلها أيضاً مستحسنة من قبله، وذلك بسبب التردي العام في الأوضاع وبسبب تهميش بغداد وجعلها عاصمة شتوية فقط.
المفارقة أن عباس العزاوي أنهى مجلداته الثمانية مع سقوط الموصل ولم يذكر رأياً في الاستقلال الحالي للعراق والذي يجسد المفهوم الحديث للاستقلال.
يمكن تلخيص مفهوم الاستقلال – الذي يراه عباس العزاوي أمراً عظيماً – بأمرين، وهما شمل جزء كبير من العراق الحالي بخارطة واحدة وجعل بغداد العاصمة مع تفضيل كون الحاكم عربي. الشيء الواقعي في هذا الطرح قد يرتبط ببعده الاقتصادي، ففي مختلف الامبراطوريات بالتاريخ تجبي الدول الأموال من الأطراف لدعم سلطة الملك (أو السلطان) في المركز، ويسبب هذا تقدم وتفوق حضاري للمركز يقابله اضمحلال وضعف في الأطراف. مهما كانت الأموال المدفوعة فليس لها وجه حق، ومن الأجدر أن تصرف على الأقاليم التي جائت منها. يذكر عباس العزاوي أن المغول كانوا من السلطات القليلة التي لم تكن تثقل الناس بالضرائب وكانوا يوجهون الأموال للأقاليم ذاتها.
بالنسبة للعثمانيين كان استقلال أحد الحكام بالعراق هو أحد الكوابيس، ليس لمردود العراق الضريبي فقط فمردود العراق ليس كبيراً، ولكن لكون العراق خط الدفاع الأول أمام إيران وما بعد ايران من الغزاة، ولما تركته حادثة بكر صوباشي من وقع، إذ أهدت العراق لإيران على طبق من ذهب. كان العراق مقتدراً على الاستقلال في ظل العديد من الولاة الأقوياء ومع ذلك فقد بقي مرتبطاً بمباركات السلطان للولاة، وبإرسال الأموال لاسطنبول حتى في أيام المماليك.
لجأ العثمانيون لتبديل الولاة بسرعة كأحد الحلول لعدم إعطاءهم الفرصة لتوطيد النفوذ، في الفترة التي تسبق حسن باشا وأحمد باشا ابنه، أي منذ القرن السادس عشر ومن ثم الاحتلال الصفوي وما بعد عودة السلطة للعثمانيين، كان الولاة يجدون أنفسهم فاقدين للنفوذ بشكل تام وسط الانكشارية التي وطدت نفوذها ووسط الاشقياء من المدن والعشائر خارج المدن، لذا كان حكم الولاة شكلياً خلال القرنين الأولين من السلطة العثمانية. سمة هؤلاء الولاة كانت أنهم من العزاب غالباً ولم اقرأ في الكتاب عن زوجة او عائلة لأحد هؤلاء، كما كان أكثرهم من ذوي النشأة الشبيهة بنشأة المماليك، فهم إما ان يكونوا من المماليك أو ممن يرسلهم أهلهم منذ الطفولة الى الخدمة والتعلم في البلاط العثماني من مناطق مثل البوسنة والهرسك والبانيا. إذاً، فقد كانوا أشخاصاً ضعفاء دون ارتباطات اسرية أو طموحات في تأسيس أسر حاكمة. طبيعة هؤلاء الولاة هي مما لاحظته وليس مما يذكره عباس العزاوي ويستحق الأمر مبحثاً لربطه بما يسرده علي الوردي حول شيوع الشذوذ الجنسي في المؤسسة الانكشارية.
مع نهاية القرن السابع عشر كاد العراق أن ينفصل بشكل تام عن نفوذ العثمانيين، وصارت سلطة العشائر هي السلطة الطاغية دون ردع من أحد. عندئذ قرر العثمانيون رسم واقع جديد للبلد عبر تعيين حسن باشا الذي كان من أسرة اسطنبولية مرموقة واستطاع اسناد الأمر لابنه احمد باشا من بعده ومن ثم تولى قريبهم سليمان باشا الكبير الحكم وهو الذي جاء بالمماليك لتستمر فترة القوة هذه حتى اسقاط حكم داوود باشا في عشرينات القرن التاسع عشر. خلف ذلك فترة تسلط ظالم على الناس يتخلله الكثير سلب الأموال على يد زبانية علي رضا باشا اللاز وهم عصابة متعددة القوميات وفيهم من أهل بغداد أيضاً. ثم انتهت تلك الفترة لتعقبها فترة الإصلاحات العثمانية.
مواقف عباس العزاوي
اليزيدية: يساند عباس العزاوي كافة الحملات التي قامت بها الدولة العثمانية ضد اليزيدية او الحملات التي قام بها الامراء الاكراد والعشائر الكردية ضد اليزيدية. لكنه يثني في النهاية على سلوك مدحت باشا في غزوته لليزيدية والتي اقتصر فيها على اعتقال الجناة في أحد الحوادث ولم يقم بالسبي والقتل العام لهم.
الشيعة: موقف عباس العزاوي من الشيعة محايد الى حد كبير، ولا يظهر فيه الشيعة ابدا بيدقا بيد إيران مثلما هو سائد اليوم في الفكر السياسي وربما هذا هو الواقع في وقتها فلم تكن هذه القضية موجودة من الأساس. يستنكر عباس العزاوي أمور مثل سب الصحابة، لكنه في الوقت نفسه لا يؤيد أي اعمال تجاه الشيعة (وفي الواقع لا توجد أفعال مركزة تجاه الشيعة اثناء الفترة العثمانية)، كما انه لا يمتنع عن ذكر علم وادب بعض فقهاء الشيعة ويذكرهم بشكل لا يقل عن ذكره لعلماء السنة في وفيات الاعلام. وبشكل عام لا يتعرض عباس العزاوي للفتن السنية الشيعية، وقد حرص على إيضاح موقف الشيعة من المغول وعدم تورطهم في الخيانة، وهو الأمر الآخر الذي ربما شاع وانتشر مؤخراً واستناداً على روايات تاريخية محدودة.
المغول: يذكر عباس العزاوي الوقائع كما هي، ويذكر الجيد والسيء في المغول ويسرد سير حكامهم مثل أي حاكم آخر، ويمكن من خلال قراءة ما كتبه أن نفهم بأن الوضع تحت الحكم المغولي ليس بهذا السوء، بل هو افضل من حقب أخرى كثيرة في تاريخ العراق.
الطرق الصوفية الباطنية: يخصص عباس العزاوي صفحات لشرح اعتقادات الطرق الصوفية الباطنية ويصرح بأنها طرق ضالة لا تمت للاسلام بصلة، ويؤيد ما يفعله الحكام تجاه هؤلاء، ومن خلال نقله الموضوعي يمكن أن نفهم السياسة الذكية للدولة العثمانية في استخدام هذه الطرق.
بين علي الوردي وعباس العزاوي
يمكن ان أدرج المفاهيم الآتية التي تم تصحيحها لي بعد قراءة العراق بين احتلالين:
- تشيع الدولة العثمانية: رغم أن الوضع غريب جداً في وجود الطرق الباطنية العلوية في أعلى هرم السلطة العثماني لدى السلاطين الأوائل غير أن الموضوع ليس بهذه البساطة ولا يُمكن اعتبار الدولة العثمانية دولة علوية إلا في مراحل محدودة جداً وحقب بسيطة. موضوع تسخير المذاهب في خدمة الدولة العثمانية هو مبحث مهم بحد ذاته لا يستوعبه كلا الكتابان، لكن عباس العزاوي نقل صورة واضحة جداً تنفي اعتماد الطرق الباطنية بشكل قطعي ولا تنفي استخدامها في نفس الوقت.
- بناء المدن العراقية: تتضح صورة الجهد العثماني في تأسيس الناصرية فقط، لكن لا ينطبق الأمر على بقية المدن التي نشأت حول تجمعات مراكز الجيش والإدارة العثمانية لكن لا توجد مساهمة حقيقية من العثمانيين في انشاء تلك المدن وحتى للناصرية نفسها. هذا الأمر أيضاً يفتح الباب لمبحث مهم جداً في أسباب عودة الزراعة الى الازدهار في القرن التاسع عشر والذي أعزوه شخصياً لأسباب مناخية كفرضية أولية لكن لا يمكنني تبني ذلك ما لم أثبته بالمزيد من الأدلة.
- اهمال أمر التحول المذهبي واختزاله: يختزل علي الوردي التحول المذهبي ولا يركز على كيفيته في العراق بل يركز على حيثيات ما جرى في ايران والقصة بين العراق وايران مختلفة تماماً. وعلى الرغم من طرح علي الوردي العلماني وعلى الرغم من تسنن وتدين عباس العزاوي غير أن الأخير كان أقدر على نقل صورة واضحة لما جرى. ما ينقله علي الوردي يمثل الرواية المختزلة المفضلة لدى أنظمة الحكم ومناهج التاريخ التي لا تفضل الخوض في هذا الأمر بإسهاب في العراق.
- حروب العشائر: يتبنى علي الوردي موقف سكان المدن العراقية في القرون الأخيرة أثناء الحروب بين الدولة العثمانية والعشائر والذي يتلخص بإلقاء اللوم كلياً على العشائر. ولا ندري، فلربما كنا سنتبنى الموقف نفسه لو كنا من أهل المدن آنذاك من منطق المصلحة. لكن في المقابل يحاول عباس العزاوي أن يكشف عبر مصادر كثيرة براءة العشائر في مواقف عديدة وكونها مصدر استمداد للولاة الذين ليس لديهم مصدر آخر للجباية في القرون التي ضعفت فيها الزراعة. بالمقابل يقع عباس العزاوي في هوة التبرير الوطني ويحاول اسباغ صورة الاستقلال على بعض تلك النزاعات.
- الطاعون: في سعيه لإيجاد مؤثرات اجتماعية عظمى، يقتبس علي الوردي من الآراء التي تُعظم من شأن الطاعون وتميل إلى أنه فتك بجميع السكان المسلمين ويشرح ذلك في أساليب المسيحيين واليهود لاتقاء المرض. غير أن هذا غير صحيح عبر ما ينقل وصفه عباس العزاوي دون ميل الى فرضية معينة. ويتفق سليمان فائق مع عباس العزاوي وهو الذي عاصر الطاعون، فلم يكد سليمان فائق بيك ان يذكره حتى وهو عاصره فكيف بمن يقول أنه أباد السكان المسلمين كلياً؟ تفيد هذه الفرضية علي الوردي في المجال الذي يخوض به من علم الاجتماع وهو التغير الاجتماعي، ويجد فيه ربما انتصاراً ساحقاً آخر للبداوة على الحضارة.