تغيرات كثيرة جرت بوفاة السلطان سليم الاول، فجأة عم في القاهرة الخوف من المستقبل القريب، ومثل احداث كثيرة حين يعم الخوف فإن الحياة تتعطل وتغلق المحال ويمكن تخيل المدينة في حالة رعب حتى. السبب هو التوجس مما سيقوم به المماليك تجاه الامراء والجنود العثمانيين. هل سيبايع ملك الامراء السلطان الجديد سليمان؟
ومن اسباب خوف الناس ايضا هو عادة الانكشارية بالنهب حين وفاة السلطان، ونهب حارة اليهود تحديدا، والتي كانت في زويلة بالقاهرة، لكن ملك للامراء رشاهم ب٨٠ دينار للواحد و١٠٠ دينار للصوباشي فلم يحدث ذلك. غير ان ملك الامراء لم يدفع شيئا للاصبهانية والكمولية فبقي اليهود خائفين وقد اغلقوا ازقة حارتهم بشكل لا يسمح للخيول بان تدخلها.
كان ذلك يتزامن مع اعلان جان بردى الغزالي نائب الشام استقلاله حيث سمى نفسه الملك الاشرف وكان هناك قطيعة ووحشة مسبقة بينه وبين خاير بگ نتيجة لقضايا عدة.
خاير بگ عقد اجتماعا واخذ بيعة الامراء الشراكسة كما بايع امراء العثمانيين ايضا واقسم الجميع على المصحف في حضور قضاة المذاهب الاربعة على مبايعة السلطان سليمان.
مكانة الامراء الشراكسة ارتفعت مباشرة بموت السلطان سليم حيث يبدو ان انحطاط قدرهم كان مرهونا بما فعله بهم حينما جاء. يقول ابن اياس ان القضاة صاروا ينادونهم “يا اغوات” بعد ان كانوا ينادونهم “يا كلاب يا زرابيل”.
من جهة اخرى فإن الاحوال السياسية في اسطنبول قد تغيرت ايضا، اذ عفى السلطان الجديد عن كثير ممن اقصاهم وقمعهم والده، ومنهم الخليفة نفسه الذي طاب له المقام في اسطنبول واستغرق بملذاته وما لبث ان وضعه السلطان بما يشبه الحبس نتيجة خلاف مع اولاد عمه.
الاوضاع لم تنته الى هنا ولم يعم السكون بعد، فخاير بگ طلب ٢٠٠٠ مغربي من شيخ المغاربة كما جند المزيد من الشركس والروم بزي الكمولية العثمانيين استعدادا لمواجهة جان بردي الغزالي الذي قيل انه كان يزحف نحو مصر بمعية جيشه ومن معهم من الاكراد ومن عربان نابلس وغيرها. في الوقت الذي رفض فيه العثمانيون الزحف وارادوا البقاء في القاهرة فحسب كما تم تكليفهم.
استقلال جان بردي الغزالي والدرس التاريخي المهم
بسط جان بردي نفوذه بشكل جيد على الشام ويبدو انه لم يكن بدرجة التعسف في اهراق الدماء كما هو خاير بك فصارت دمشق وجهة جذب للمماليك الذين كانوا يهربون من مصر وينضمون اليه وسبب هذا وحشة وقطيعة بينه وبين خاير بك.
أيضاً فإن جان بردي الغزالي نجح في استقطاب القبائل العربية في نابلس وغيرها وفي استقطاب الاكراد في الشام بخلاف خاير بك الذي كانت حملاته مستمرة على القبائل (وربما طبيعة القبائل وهجماتها تختلف أيضاً فكان من الممكن احتواؤها في الشام)، كما لم يكن جان بردي الغزالي ينكل بقومه من المماليك لارضاء العثمانيين مثلما كان خاير بك يفعل أو على الاقل لا يفعل الأمر بنفس الدرجة بحيث أنه صار محل استقطاب لهم. وكانت شعبية جان بردي أيضاً مرتفعة بين الناس. ويذكر ابن اياس أيضاً أنه كسب بعض التركمان من القوات العثمانية.
الخلاصة أنه رأى في ذلك التأييد الشعبي ضوءاً أخضراً له لإعلان الاستقلال، وكانت الحركة خاطئة ومدمرة له ولحلفاءه وللشام عموماً. حال وفاة السلطان سليم أعلن جان بردي الغزالي استقلاله وسمى نفسه الملك الاشرف وبدأ بالزحف على حلب في البداية فانكسر هناك إذ عارضه أهلها وانضموا للعثمانيين ثم بدأت الاشاعات بأنه قادم للزحف نحو مصر. العثمانيون بدورهم أخبروا خاير بك الذي أعلن رفضه الشديد لحركة جان بردي وبدأ بالتحشيد ضده أن عليه أن يبقى في محله وهم سيتولون الأمر. وبالفعل فقد حدثت مجزرة كبيرة قرب دمشق.
حدث بأهل دمشق وريفها ما لم يحدث في الغزوة الأولى للسلطان سليم، إذ فتك العثمانيون بالناس وانتهكوا الأعراض وقتلوا الالاف وسلبوا ونهبوا وقطع رأس جان بردي وارسل الى اسطنبول والغي ذلك النمط من الحكم ليتم تعيين حاكم عثماني للشام.
المماليك الذين هربوا الى جان بردي اعدموا حال عودتهم مرة أخرى الى القاهرة. كما اعدم خاير بك المتعاطفين مع جان بردي والذين كانوا ينتظرون لحظة الانتقام من العثمانيين ومنهم مثلاً شخص من المماليك هدد عثمانياً من الكمولية أن الوقت سيحين قريباً لرد اعتبارهم حال انتصار جان بردي ومجيئه الى مصر. كما اعدم شخص آخر اشاع أن خاير بك ينوي القيام بنفس ما قام به جان بردي.
ابن اياس يرى أن حركة جان بردي كانت حركة خاطئة بمجملها، رغم حنقه على العثمانيين ورغم كونه من الشراكسة. وهكذا نرى اليوم بعد كل تلك الخسائر المتمثلة بضياع سلطة المماليك الاسمية على الشام وخسارة حاكم استطاع كسب الناس على الاقل بشكل افضل مما كان خاير بك يفعله.
الدرس التاريخي الهام من ذلك: لا يهم مدى مقبولية الحاكم بين القوى المحلية، إذا لم يراع مصالحه مع القوى الكبرى، وضريبة دعم حاكم جيد (نسبياً أو بالنسبة لأصحاب النفوذ على الاقل) قد يكلف ضريبة أكبر من القتل والنهب وضياع الاستقرار من وجود حاكم غير مراع للقوى المحلية ومراعِ للقوى الكبرى.