يشير ابن اياس كثيرا الى انواع اللبس الشائع في مصر وأهميته ويسهب في وصف الملابس بتسمياتها آنذاك والتي يتعسر فهمها علينا حاليا وخصوصا لغير المصريين. للبس دلالة على الانتماء فكان للشركس زي معين وكان للعثمانيين زي معين وفي مناسبات معينة قتل الشركس لأنهم يرتدون زيهم فقط حيث عرفوا بواسطته وتحدوا السلطة الجديدة بالإصرار على اثبات وجودهم من خلال ازيائهم. ولاحقا بعد توطد الامر للعثمانيين صار الشركس يلبسون مثلهم ربما في اشارة للتبعية، لكنهم حافظوا على سمة تفرقهم عن العثمانيين فكان الشركس يعفون لحاهم فيما لا يفعل العثمانيون ذلك.
لا يدخل اللبس في العلاقة بين الشركس والعثمانيين فحسب، بل يتعدى ذلك الى أنماط من العقاب والاهانة مقابل المكافأة. نظرة الناس للأزياء ربما كانت مختلفة قليلاً عما نراها اليوم. غطاء الرأس الشائع كان العمامة، وهذه لها أشكال مختلفة ودلالات مختلفة، وتجريد الشخص من غطاء رأسه يعد بمثابة إهانة له، وهذا ما كان يفعله العثمانيون بالناس في الشوارع فيما يدعوه ابن اياس بـ “خطف العمائم” والذي يقرنه في سوءه بخطف النساء والمردان. الموضوع هذا بحد ذاته يستدعي التوقف عند أسبابه والبحث بها ومقارنتها بشعوب أخرى، مثلا التساؤل عن أن للأمر فائدة طبية كالوقاية من ضربة الشمس مثلاً؟ خصوصاً وأن الدين الإسلامي لا يركز على وجوب تغطية الرأس للرجل.
في عام ١٥١٨ اصدر خاير بك امرا منع فيه مماليك الشركس من لبس القباقيب والزموط في الاسواق الى جانب منع الجلوس في المصاطب والحارات وابواب الجوامع. إنه اجراء غريب لو تخيلنا أن حاكماً ما يصدره اليوم، فيمنع ارتداء زي معينة على فئة معينة. طبعا بصفتي عراقياً فقد عرفت القبقاب لكنني لم اعرف ما هي الزموط. يُقرن منع الملابس هذه بمنع تواجد فئة المماليك في نطاق معين من الأماكن العامة، وكأنه طمس لهذه الفئة، إنه أشبه بنمط من التشويه او الطمس الإعلامي البدائي، فبدلاً من اصدار إشاعة حول تلك الفئة أو من تشويهها اعلامياً، فالفئة تمنع من التواجد وتمنع من لبس ما يعطي انطباعاً معيناً وفق رؤية الناس للازياء ودلالات الأزياء بالنسبة للناس في ذلك الوقت.
في ذي القعدة 1521 ميلادية امر خاير بك بأن لا مملوك ولا عثماني ولا ابن ناس (المنتمين لطبقة المماليك السابقين وذرياتهم) يلبس زمطا احمر والا يشنق. ويقال انه رأى عبيد وصبيان بجمقدارية واراد ان يشنقهم لأنهم كانوا يرتدون الزموط. كما منع المماليك من ارتداء السرموجة التركي. وأيضاً لا نعرف هنا ما هي السرموجة.
وبالمقابل فإن التكريم السائد هو القفطان الحرير والذي يعطى مثلا لشيخ العرب عندما يزور خاير بك، والذي يعطي أيضاً منديلاً من المخمل المطرز بالورود (مزهر)، وايضا عند تعيين الحاكم فإنه يعطى قفطان حرير. دلالة تعيين الحاكم على البلاد المختلفة وفي عصور مختلفة ودول إسلامية مختلفة هي الخلعة التي تمنح للحاكم والتي استمرت حتى عصر الإصلاح العثماني. ابن إياس بدوره يسهب في وصف الخلعة وبأوصاف لا نفهمها بشكل دقيق أيضاً فيقول عنها “تماسيح أحمر” فهل كانت من جلد التماسيح ومطلية بالأحمر؟ أم أنها تبدو كذلك؟ خلعة كهذه كانت ترسل من السلطان سليم ومن ابنه سليمان ولأشخاص يراد تكريمهم بحفاوة مثل تعيين الحاكم.
ولا ندري هل منديل الامان هو مصطلح مجازي ام منديل فعلي، اذ يقول فدخل القاهرة وعلى رأسه منديل الامان ويكررها بينما يصف شيخ العرب قادما وخائفا من عقاب الامير. حيث يقابل هذا المصطلح العادة الأخرى في التكريم والتي ذكرناها، بمنح منديل مخمل مطرز.
اللحى هي الأخرى لها مكان في هذه الدلالات، ففي عام 1522 كان من يرى من المماليك بلحية طويلة تقطع لحيته الى النصف لتكون بطول لحى العثمانيين. كما امرهم ملك الامراء بلبس الاكمام الضيقة كما يفعل العثمانيون.
أما القماش بحد ذاته فكان من الثروات، حيث يذكر ابن اياس أكثر من مرة القماش مع ذكره للذهب والفضة. الأعراب المذكورون لدى ابن اياس (وفي العراق أيضاً كما يذكر عباس العزاوي) كانوا يعرون الناس الذين يسرقونهم تماماً، رجالاً ونساءاً، ودلالة هذا بالنسبة للناس آنذاك هي أقصى درجات الإهانة رغم أنها مهينة أيضاً في وقتنا الحاضر. يذكر ابن اياس في جرد أموال خاير بك بعد وفاته كميات الأقمشة التي كانت لديه.
باختصار، ووفق ما نتوقعه، فإننا مهما بلغت أهمية الملابس بالنسبة لدى البعض منا اليوم، فهي كانت أهم بكثير من ذلك، ومهما كانت دلالات الزي المهين أو التعري فهي أكبر مما هي عليه اليوم. القماش ثروة، والزي يحدد الطبقة الاجتماعية بدقة، وتفاصيل الأزياء وقطع الملابس تحدد ذلك أيضاً بدقة متناهية. الآن، لو غادرنا عصرنا الحالي بملابسنا الحالية نحو ذلك العصر، كيف سينظر لنا الناس؟ هل سيعتبروننا نبلاء، محتشمين، سيئين، حقراء الشأن؟ ربما تصعب الإجابة على هذا السؤال مع هذا القدر اليسير من المعلومات.