في زيارته لمدينة أنطاليا في القرن الرابع عشر، استضيف ابن بطوطة في زاوية صوفية بالغ شيخها والقائمون بها بإكرامه والاحتفاء به كغريب كما لم يعهد من قبل، وقد أشار لحسن أخلاقهم وكرمهم ومدحهم كثيراً. الشيخ الموجود في الزاوية أخبره بأنه مستضاف من قبل قائد أخية الفتيان في المدينة، حيث أن هناك مئتي “أخي” في المدينة.
للتنظيم طابع عسكري وسياسي، فهم يحملون السلاح ويُمكن أن يقاتلوا، كما أن لهم دور سياسي يصل إلى حكم بعض المناطق التي يتواجدون بها في غياب أو ضعف السلطة البيزنطية أو العثمانية. يتواجد التنظيم في المناطق الحرجة في اطراف مناطق سيطرة العثمانيين والبيزنطيين، ويتواجد بين المسيحيين بشكل اعتيادي ويحمل أفراده أهدافاً لنشر الإسلام. غير أن تواجدهم في تلك المناطق بسلمية يرتكز على بذور أفكار عدم التفرقة بين الأديان الموروثة من جلال الدين الرومي، فهم لا يبشرون بإسلام تقليدي.
يخضع الآخيون لقواعد الفتوة التي نشأت في الأساس من جذور صوفية كصفة للإنسان الصالح والشهم. وللكلمة جذور دلالية معنوية مشابهة في الجاهلية كقول طرفة بن العبد: “إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد”، أو في صدر الإسلام مثلما ينسب البعض تلك الفئة إلى الآية القرآنية “إنهم فتيةٌ آمنوا بربهم وزدناهم هدى” التي يأخذها البعض وكأنها تتحدث عن صنف من الناس لا عن فئة عمرية فحسب. بجميع الأحوال، ففي عهد الخليفة الناصر لدين الله ظهرت الفتوة كسمات لجماعة معينة تناصر الخليفة الذي ينسبه البعض للتشيع، فيما لا تتضح حقيقة معتقده هل كان يدين مثلاً بعقيدة عرفانية أم كان شيعياً اثنى عشرياً، حيث يذكر عباس العزاوي في كتابه عن الكاكائية وجود صلة بين نشوء الكاكائية وبين الفتوة التي انشأها الخليفة الناصر.
يُمكن أن نتخيل فتوة الخليفة الناصر كأمر شبيه بالمظهر والملبس الذي تفرضه الأنظمة الحاكمة الشمولية على أتباعها المقربين أو على أعضاء الحزب، لاسيما أن طبيعة الملبس لها أهمية كبيرة جداً في تلك العصور (مثلما سنتطرق إلى أهمية الملبس والأزياء لدى إبن إياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور). لكن في الوقت نفسه، تحولت الفتوة في العراق وسوريا وربما في أقاليم أخرى إلى سمة للأشقياء والبلطجية، ولم يبق من أساسها الأخلاقي الصوفي شيئاً، بل احتفظت فقط بالشارب الطويل الذي يعد أحد عوامل الربط التي يرتكز عليها عباس العزاوي في كتابه حول الكاكائية. يرى آخرون أيضاً أن الفتوة لدى الناصر لدين الله كانت اقتباساً من اخويات الفروسية الصليبية التي جاءت الى المنطقة في تلك الحقبة، لكن من الباحثين من يستبعد ذلك لاختلاف طبيعة التنظيمات الناشئة في المنطقة كالأخية عن تلك الأخويات مثل الفارق الكبير ارتكاز أخويات الفروسية في الغرب على ملكية الأرض.
بحسب كاتب البحث الذي نرتكز عليه بشكل رئيسي، فإن الغرض من الفتوة هو خلق تنظيم مساند للسلطة من جهة، والتوفيق بين المذهبين السني والشيعي من جهة أخرى، فضلاً عن أهداف اقتصادية واهداف تبشيرية لنشر الإسلام في الأراضي المسيحية أي في دار الحرب. وقد أشار باحثون إلى أن نشاط جماعات الأخيين كان أكبر في المناطق الحدودية كما أسلفنا.
التنظيم إذاً كان يرتكز على الفتوة، ولكنه كان يجمع عناصر أخرى، فهو ليس تابعاً للسلطة بل يمارس الرقابة على الامراء في مناطق، ويتولى السلطة في مناطق أخرى تضمحل بها السلطة. كما كان للتنظيم بعد آخر وهو ضم أصحاب الحرف فيما يشبه النقابات، وكان هذا التطور لاحقاً أحد الأشكال التي انتهى إليها تنظيم الأخية بعد انقراضه. أما الجسد الديني للأخية فقد اندمج ضمن الطرق المولوية والبكتاشية والخلوتية. والبكتاشية هي الطريقة الأقرب لما كان عليه الآخيون. ويعتبر الباحث احتفاظ مشايخ البكتاشية بنسخ من كتب حول الفتوة دليلاً على الصلة بين الاخية والبكتاشية. في زواياهم، كان الأخية مثل أي زاوية من زوايا البكتاشية يستمعون للأشعار والأغاني، وكانوا يتلون القرآن ايضاً ويستمعون للوعاظ.
يسمى الأعضاء في الجماعة “أخي” فلان، فمثلاً كان أخي أمير علي يحكم مدينة قيصرية، فيما كان أخي جلبي شخصية متنفذة في مدينة سيواس، أما في أنقرة فقد كان القاضي تابعاً للجماعة. احتد النزاع وتحول الى ثورة عندما حاول بايزيد يلدرم ان يسيطر على الجماعة واقتحامه انقرة، حيث تحولت الجماعة هناك الى الثورة لكن الاجهاز عليها تأخر مع مجيء تيمورلنك وانهيار الكيان العثماني الناشئ. ومع ثورة الشيخ بدر الدين (لم يذكر الباحث انه كان معهم) كان نفوذهم في انقرة قد شارف على الانتهاء ووصلت الجماعة الى اضعف احوالها تزامناً مع ثورة الشيخ بدر الدين أو مساهمةً فيها، حيث لم يوضح الباحث ذلك وقد يكون الأمر مجهولاً من الأساس.
بعد وفاة مراد الأول، ينسب الكاتب منزلة الاقطاعيين المسماة (ayan) بالتركية إلى (akhyan) (أيان تبدو ايضاً شبيهة بأعيان) وبذلك يعزوها الى الاخية والى تحولهم الى اقطاعيين، وهي المعنى لكلمة ايان. أما آخر نشاط سياسي للأخية فقد كان عام 1423 في بورصة عندما حاول اثنان من الاخيين تحريض الأمير مصطفى للثروة على أخيه السلطان مراد الثاني.
تمنع الأخية انتماء فئات معينة من الناس اليها مثل الراقصين، العرافين، جامعي الضرائب، المشعوذين، المخبرين، وبائعي الخمور. ومن شعارات الأخية الايثار على النفس، وهو ما يصفه بدقة ابن بطوطة حيث يقول أنه لم يجد مثلهم قوماً يستضيفون الغريب ويكرمونه. ويذكر ابن بطوطة انهم لم يكونوا متزوجين ولا يعرف هل هذا عادة لهم ام صدفة رآها ابن بطوطة. أما أعمالهم التي يكسبون بها المال فهي تتنوع بين التجارة وبين الحرف اليدوية.
ويذكر ابن بطوطة ان الجماعة قد صامت عشرة أيام من عاشوراء فما قبله، لكن الباحث غير ملم كلياً بالمسائل الإسلامية فكان يعزوها للولاء للحسين ولنزعة من التشيع، لا يدري أن هذا مرفوض من قبل الشيعة، وأن عادة الصيام في عاشوراء غريبة عليهم. لكنها في الوقت نفسه غريبة على السنة أيضاً أن يصوموا لعشرة أيام (هناك حديث في فضل صيام شهر محرم بأكمله) وليس هناك مانع من ظهور بدع بسيطة كهذه بين الأتراك.
يسمي عاشقباشزاده المؤرخ التركي من القرن الخامس عشر الآخيون بـ “المسافرون” حينما يتكلم عن الدرويش مجد الدين، ولا ندري إن كان مجد الدين هذا من الاخية أم لا، فهو درويش ينام في المقبرة ولا يملك سوى ثيابه، وكان له احترام من الاخيين في قونيا، لكن لم يتضح لماذا نسبه الباحث اليهم أو نسبهم اليه. (لعل تسمية المسافرين تشير الى نحو فئة من هذه الجماعة منحى التجارة والاستفادة من فكرة الأخوية في تسهيل التبادل التجاري بين المدن).
المراتب بين الأخية هي يغيت (فارس)، أخي، والشيخ. بالإضافة الى رتبتين “قولي” وهو الواعظ، و”سيفي” وهو الجندي.
تفككت الاخية في نهاية القرن الخامس عشر بعد قرن من نشوءها وتحول بعض أتباعها الى ما يشبه النقابات لأصحاب الحرف، فيما اندمج الجسد الديني الأكبر للجماعة ضمن الطرق المولوية والخلوتية والبكتاشية. لكن ما استمر وحمل معه الاسم اكثر هو الطابع النقابي للأخيين، بدءاً من أخي اوران (Ahi Evran) في القرن الثالث عشر وانتهاءاً بآخر النقابات التقليدية في الاناضول في الفترة العثمانية.
مصادر:
Arnakis, G. Georgiades. “Futuwwa Traditions in the Ottoman Empire Akhis, Bektashi Dervishes, and Craftsmen.” Journal of Near Eastern Studies 12.4 (1953): 232-247.
موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة، ص492
عباس العزاوي، الكاكائية
NIKI GAMM, “Organizing trade: The ahis and guilds of Anatolia”, hurriyetdailynews.com, January 10 2015