بعد مسيرة سياسية وعسكرية طويلة مات ظاهر العمر إثر رصاصة اخترقت عنقه ثم اجتز أحد المغاربة رقبته ليقطع رأسه ويؤخذ الرأس الى اسطنبول من قبل القوات المرابطة على بر عكا.
حسن باشا الجزايري صف سفنه خارج المدينة، والمرتزقة المغاربة التابعون للعمر يطلقون طلقات المدفعية من قلعة عكا بخجل نحو السفن العثمانية. في اليوم الأخير امطرت المدينة بـ 7 الاف قذيفة ورأى ظاهر العمر أن لا مناص من الأمر فيقرر مغادرة المدينة ليقتل على أبوابها.
ننصح بفتح الخارطة من الرابط، واختيار عقود مختلفة لتظهر التغيرات في خرائط النفوذ في تلك الفترة.
في نهاية القرن السابع عشر تولت عائلة الزيدانيين جباية الضرائب في صفد ومحيطها، وكانت هذه هي الصيغة التي تتأسس بها الامارات في انحاء كثيرة في الدولة العثمانية، بينما كان العثمانيون يعترفون بآخرين فقط لتجنب عصيانهم، وبآخرين لصعوبة السيطرة على مناطقهم. غير أن ظاهر العمر كان شخصية مميزة وكان سيكون له تأثير ايجابي كبير لو تكللت مغامراته السياسية والعسكرية بالنجاح.
في العشرينات من القرن الثامن عشر توسع ظاهر العمر بالقوة ليفرض سلطة جباية الضرائب التي يمتلكها على شمال الجليل بأكملها (شمال فلسطين)، ثم احتل الناصرة في الثلاثينيات.
وكانت اولى مواجهاته مع الدولة العثمانية بحصار والي دمشق سليمان باشا العظم لقلعة طبرية التي بناها العمر وحصنها، وانتهت الامور على ما يرام بوفاة سليمان باشا العظم. اتبع ذلك باحتلال عكا بعد اربعة سنوات، وهو يدير الامور مع الدولة العثمانية عبر دفع الضرائب وعبر تغاضيها عنه وعن نزاعاته مع رجالها في المنطقة. وما أن حل عام 1750 حتى أخذ حيفا والطنطورة من آل الطوقان وهم جامعو الضرائب المحليون في وسط فلسطين. فيما كان بنو صخر يسيطرون على البوادي في جنوب فلسطين.
في الستينات حصل ظاهر العمر على اعتراف رسمي من الدولة وتمت مناداته بـ (شيخ عكا والجليل وامير الناصرة وطبرية وصفد)، وفي نفس الحقبة بدأت نزاعاته مع اخوته وابناءه والتي استطاع ان يصفيها بنجاح ليستعد لمواجهاته الحاسمة في الحقبة التالية.
في عام 1771 كانت علاقات ظاهر العمر قد توطدت مع الشيعة في جبل عامل فصاروا حلفاءه الرئيسيين في لبنان، وفي الجنوب تآزر مع قوات محمد ابو الدهب وحاكم مصر الفعلي علي بك الكبير المتمرد على العثمانيين ليتمد سلطانه من بيروت شمالا الى غزة جنوباً مع سيطرته على حوران.
في نفس السنة حقق ظاهر العمر انتصاراً كبيراً على العثمانيين في معركة بحيرة الحولة بلبنان الحالية وذلك بالتعاون مع حلفاءه الشيعة طرد على أثرها الوالي العثماني من صيدا والزعماء الدروز الموالين للعثمانيين من بيروت.
كان ظاهر العمر جزءاً من تحالف علي بك الكبير مع الروس المرابطين بسفنهم في تلك المنطقة، لكن يبدو أن مجمل ذلك التحالف قد تخلخل بعد أن دخل محمد ابو الدهب دمشق وتغيرت جميع خططه وانقلب على زعيمه ومولاه علي بك الكبير وبدأت الامور تمضي نحو الاتجاه المعاكس. محمد ابو الدهب يعود لمصر ويطرد علي بك الكبير منها ويلجأ الاخير لعكا وتبقى قوات ظاهر العمر دون أي دعم كما لا يبدو أن الدعم الروسي شكل شيئاً يذكر.
في عام 1775 دخل محمد ابو الدهب يافا (بعد انحيازه لصف العثمانيين) ويقال انه قتل جميع الذكور فيها، وسقطت عكا كما اسلفنا وتم اعتقال اولاد ظاهر العمر فيما تمت محاصرة وقتل آخرين منهم وتشتت ذريته بعدها.
يختلف ظاهر العمر عن الكثير من الامارات العشائرية وامارات قطاع الطرق، فقد كان يمتاز بصفات تجعله رجل دولة، إذ بنى قلاع عديدة وحصن قلاعاً أخرى، كما كان حريصاً على تسليح قواته بأسلحة جيدة، ولم تكن سياسته الضريبية مزعجة، وكان قادراً على بناء اقتصاد جيد في فلسطين وتعزيز التجارة بشكل مستقل مع أوروبا، فضلاً عن قدرته المتميزة بعقد التحالفات السياسية وقدرته على تحقيق النصر في المعارك ضمن ساحة جيوسياسية لم يسبق لها ان استوعبت شخصاً مثله من قبل. من جهة أخرى، كان يلعب ظاهر العمر بكل ما بيده من متغيرات لتحقيق طموحاته السياسية، فحتى اللحظة الأخيرة كان يفاوض على تسليم ما بذمته من ضرائب كما تطلب إسطنبول منذ عام 1768.
لماذا نعتبر ظاهر العمر شخصية مميزة بخلاف زعماء إمارات أخرى في عصره؟ ظاهر العمر حرص على تطوير المدن التي كانت تحت سيطرته، فحتى الآن يمكن مشاهدة الكثير من الأبنية التي عمرت في عهده، وبضمنها كنائس! فقد وفر تسامحاً دينياً لم يكن يوفره الولاة العثمانيون في تلك الفترة. كما أن فترة حكم ظاهر العمر والمواقع التي حكمها كانت تمتاز بالأمن فقد نظم اتفاقيات مع القوافل العربية لمنع السلب والسطو على المدن ويقال أن المدن في الجليل أصبحت محل استقطاب للقادمين من مناطق أخرى في عهده. وفضلاً عن ذلك فقد كانت حقبته حافلة بالإعفاءات الضريبية في الظروف الصعبة ومواسم القحط.
كان لظاهر العمر أن يستمر مثلما استمر الشهابيون ومثلما استمرت الامارات الاقطاعية والعشائرية في العراق حتى منتصف القرن التاسع عشر وكان سيبقى في محل نفوذه وموطنه في الجليل لولا تلك الطموحات، لكن في الوقت نفسه فإن ظاهر العمر لو كان ذلك الاقطاعي الخانع فإننا لم نكن لنعرفه بمنجز أو بعمل يذكر.
أول عبرة ينبغي لنا التوقف عندها في قصة ظاهر العمر هي المشكلة الأزلية في الشرق حول ضعف فكرة الشرعية لدى الحاكم، الشرعية التي تعطيه الثبات وتجرد الخارجين عليه من إمكانية حصولهم على الحكم فقط لأنهم امتلكوا منصباً عسكرياً او لأنهم من اقرباءه. كاد جميع اخوة ظاهر العمر وابناءه ان يتمردوا عليه في الستينات وأخذ ذلك وقتاً مهماً من فترة كان في اوج قوته فيها. اما الشطر الثاني حول قضية الشرعية فهي حول ما فعله محمد أبو الدهب الذي كان مملوكاً لعلي بك الكبير المملوكي الذي كان يحكم مصر، انعدام مفهوم شرعية الحاكم هذا جعل مصر لحقب طويلة بيد الضابط الأقوى فحسب، نستثني من ذلك الفترة الفاطمية التي عززت شرعيتها بخلافة ونظام ديني توج بتولية صلاح الدين الذي لا ينتمي لذلك النظام الديني فأجهز عليه وعلى خليفته. الأزمة ذاتها تتكرر في العراق وفي مواضع عديدة في العالم الإسلامي ولم يكن للخلافة لدى أهل السنة دور يذكر في حل المشكلة، إذ سرعان ما تم تعديل صلاحيات الخليفة ليصبح منصباً شرفياً. ولم تبرز أي آلية واقعية لتعزيز صلابة الاسر الحاكمة وتعزيز انتقال السلطة فيها بشكل منتظم ومستدام.
العبرة الثانية التي يمكن أن نأخذها هي أن ظاهر العمر ورغم تميزه كأمير في إقليم صغير جداً فهو لم يكن مؤهلاً للقيام بحركاته الكبرى في السبعينات لولا الزحف المصري على الشام بجيش من 40 ألف مقاتل وهذا يفوق أي رقم يُمكن أن توفره أي من ولايات الشام او العراق. إذاً، فالحاكم مهما تميز في ادارته فهو مقيد بإمكانيات الإقليم الذي يحكمه، والمغامرات الخارجة عن قدرات ذلك الإقليم مصيرها الدمار للحاكم والمحكوم. أي محاولة غير مضمونة لمنازعة السلطة العثمانية ستنتهي بوبال كبير على المدن بعد عودة العثمانيين اليها.
ويمكن أن نتوقف عن ملاحظة أخرى حول الحكم العثماني في تلك المرحلة، فظاهر العمر كان يقاتل ولاة عثمانيين ويغزو جباة ضرائب آخرين لكنه مع ذلك كان ينال الاعتراف اللاحق من الدولة ويتم التغاضي عن كل ما فعله من اقتتال داخلي (كما يجب ان يعتبر) فقط لأنه يقدم ما عليه من الضريبة.
قد يستحق النظر أن نلاحظ المدن الهامة في سواحل بلاد الشام والتي تم ذكرها، فالموانئ الفلسطينية تبدو غير ذات أهمية باستثناء عكا، اما حيفا ويافا فهي نواحي صغيرة فضلاً عن غزة. القدس ونابلس لهما أهمية، وتظهر الجليل وشمال فلسطين بشكل عام وكأنهم قلبها النابض. في لبنان تبدو صيدا أهم من بيروت بكثير وتأتي طرابلس بعدها بالأهمية ثم تأتي بعد ذلك بيروت. كما أن للشيعة في جبل لبنان أهمية كبيرة في توازن القوى، فبعض المصادر تذكر أن لهم عشرة آلاف فارس، ولم يجرؤ أحد على مواجهتهم مثلما لم يرغبوا هم بوضع أنفسهم بين طرفي الكماشة، كانوا مساندين لآل العظم في دمشق في حوادث كثيرة ضد الدروز، ثم انتقلوا للتحالف مع ظاهر العمر لكنهم لم ينالوا ما ناله او ما نالته المدن الفلسطينية المتحالفة معه اثر خسارته.