اصداء معركة جالديران تهز الشرق الأوسط، جحافل العثمانيين تقتحم تبريز، ويهزم الصفويون هزيمة كبرى، ثم يتوقف المد العثماني فجأة ويعود سليم الاول ليقضي على إمارة ذو القدر التركمانية ثم يزحف نحو الشام فمصر بذريعة تواطؤ مزعوم بين الشاه اسماعيل والمماليك، لكن الحملة الإعلامية وتهويل الخصم المهزوم لم يتوقف إلى هنا، فبعد سنتين من المعركة تداهم قوات الانكشارية في القاهرة مسكن تاجر ايراني ويقتل بطريقة بشعة، لينهب خاير بك امواله ويعده جاسوساً لاسماعيل الصفوي.
هذه قراءة في اول 70 صفحة من كتاب الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني (1516-1788) لستفيان وينتر ترجمة محمد حسين المهاجر وهو كتاب قيم ينظر الى الشيعة وما يصدر بحقهم من منظور السلطة العليا في اسطنبول حيث يستند إلى الوثائق العثمانية كمرجع رئيسي لفهم العلاقة بين الدولة العثمانية والشيعة.
يظهر في الكتاب جانب عميق من السياسة العثمانية لم نشهدها في الاقاليم البعيدة، وهو التخطيط الذي يجري من اسطنبول والدوافع الدقيقة للسياسات والفهم والحيطة لأمور بعيدة عن العاصمة.
غير أن التشيع في الدولة العثمانية يعد بحد ذاته لغزاً لاسيما وأن عماد قوتها يستند الى طريقة صوفية شيعية وهم البكتاشيون وحتى فترة متأخرة من عمر الدولة، كما كان العثمانيون في بداياتهم الملجأ لكل من غضب عليه حكام السنة بمغولهم وتركهم وعربهم وفرسهم من الطرق الحروفية والاسماعيلية حتى التنظيمات النقابية السرية مثل الأخية كان فيها ملامح شيعية واضحة. بل يقول وينتر في الكتاب نقلاً عن بحث لجان هاثادي أن سيف الامام علي (ذو الفقار) قد انتشر بين عرب الشرق الأوسط بواسطة الجنود العثمانيين.
مع ذلك، فإن تبعية جماعات من القزيلباش للشاه اسماعيل تبعية عقائدية قد قادت الى سياسات مشددة تتزامن مع تلك الملامح الشيعية في الدولة العثمانية، وطالت تلك السياسات الشيعة الامامية أيضاً واطلقت تسمية القزيلباش على هؤلاء أيضاً إمعاناً في تلك السياسات. ويعد هذا أمراً خطيراً أن تعامل جماعة تتواجد في منطقة بعيدة كلبنان معاملة جماعات ثائرة في حدود الدولة مع ايران، حتى أن كلمة شيعة لم تظهر في الوثائق العثمانية حتى عام 1736 ضمن ما ذكر حول النزعات التقريبية لنادر شاه ومحاولته لنيل اعتراف العثمانيين بالشيعة كمذهب خامس. كما شاعت كلمة “رافضي” أيضاً.
وقد أدى عدم التمييز بين الشيعة والقزيلباشية هذا (والحاصل سهواً أو عمداً) إلى ظهور حالات عديدة اضطهد فيها الشيعة، ولم يكن التمييز حاضراً لدى معظم فقهاء العثمانيين مما ينعكس على سياسات الدولة.من جهة أخرى فقد يبرر عدم التمييز هذا بمعرفة العثمانيين بهجرة الفقهاء من جبل عامل الى الدولة الصفوية وسعيهم للحيلولة دون ذلك، حيث تذكر احدى الوثائق ذماً بفقيه شيعي عاملي قائلة عنه “رافق اسماعيل ونصره وساعده في نشر افكاره ملقباً نفسه بشيخ الاسلام وما هو الا شيخ المرتدين”، ويعد هذا النص بحسب الكاتب نصاً فريداً حيث يشير الى ادراك العثمانيين للصلة بين جبل عامل والصفويين واستفادة الصفويين من فقهاء الشيعة في جبل عامل بتشكيل “نظرية شيعية للحكم”.
ويذكر الكتاب في القرن السادس عشر حالتين أو ثلاث لاعدامات مذهبية أبرزها كان لفقيه شيعي توجه الى اسطنبول ودرس فيها متنكراً على أنه شافعي، وهناك عرف به شيخ الاسلام (ابو السعود) الذي صادف أن يكون قاضياً بمكة وقتما توجه الفقيه الشيعي (زين الدين بن علي) إلى هناك هارباً فقبض عليه وارسله الى اسطنبول ليعدم بسبب مذهبه، وكان ابو السعود متطرفاً بشدة ضد الشيعة.
وقد ورد في الوثائق العثمانية أيضاً اخطار بتوجيه الحجاج القادمين من ايران الى الشام وتوجيههم نحو مكة من هناك لكيلا يخالطوا أهالي جنوب العراق ويؤثروا عليهم، كما تم انشاء خان لهم خارج كربلاء كيلا يختلطوا بأهل البلد، كما فرضت الدولة رسماً على الشيعة المتوجهين من ولاية دمشق الى العراق لغرض الزيارة الدينية. من جانب آخر، فقد كان العثمانيون يقدسون المراقد الشيعية ويعطون مكانة خاصة للأشراف ونقاباتهم وتجمعاتهم في البلاد المختلفة رغم أن كثيراً من هؤلاء كانوا من الشيعة.