التصنيفات
التشيع الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني تاريخ بلاد الشام

لبنان في القرن الثامن عشر: قراءة في كتاب الشيعة في لبنان تحت الحكم العثماني لستيفان وينتر

في بادئ الأمر ومن النظرة الحديثة للبنان قد نرى أن عنوان الكتاب يركز على أمر هامشي جداً في التاريخ الحديث للمنطقة وللبنان. لكن وعند الاطلاع على لبنان العثمانية فسنجد أن الشيعة هم المحور الأكثر أهمية في تاريخ لبنان الحديث من بعد المحور الرئيسي وهو حكم الإمارة الشهابية. الكاتب ستيفان وينتر تناول الوضع في لبنان منذ أولى سنوات الاحتلال العثماني وحتى نهاية القرن الثامن عشر عندما بدأت ظاهرة الإمارات الاقطاعية تشرف على نهايتها في انحاء الدولة العثمانية.

مصادر وينتر كانت بالدرجة الأساس البيانات العثمانية ومن ثم كتب التاريخ المحلية مثل كتاب تاريخ الشهابي وكتاب تاريخ الأزمنة للقس اسطفان الدويهي، فضلاً عن تدوينات السفراء الفرنسيين التي تعد مصدراً بالغ الأهمية في قراءة التاريخ الحديث للبنان.

المصادر العثمانية تُظهر الأمر في أحيان كثيرة بشكل مختلف عما نراه في كتب التاريخ المحلية التي كتبت من الأدنى وليس من الأعلى، حيث نرى في بيانات الدولة أموراً لا يشهدها الناس ولا تعبر فعلياً عن واقع حياتهم لكنها تعكس اهواء الدولة وسياساتها فهي مهمة من ناحية لكنها قاصرة من ناحية أخرى فهي تُظهر اهتمام الدولة وتركيزها على أقاليمها ما لم ينتبه القارئ لتباعد الفترات ولطبيعة ما تنظر به الدولة فعلياً. في بيانات الدولة العثمانية نجد أغلب الوثائق مقتصرة على بيانات ضريبية، وهي التي كانت مصدراً مفيداً لمعرفة العوائل المخولة بجمع الضرائب ومقادير تلك الضرائب وتواريخ الانقطاع واخذ الصلاحية. فضلاً عن ذلك هناك بيانات للمحاكم كان للكاتب من خلالها أن يطلع على بعض الخلافات التي اتجهت للقضاء وهي محدودة مقارنة بمقدار التناحر والتصادم الداخلي.

الشيعة والدولة العثمانية

اصداء معركة جالديران تهز الشرق الأوسط، جحافل العثمانيين تقتحم تبريز، ويهزم الصفويون هزيمة كبرى، ثم يتوقف المد العثماني فجأة ويعود سليم الاول ليقضي على إمارة ذو القدر التركمانية ثم يزحف نحو الشام فمصر بذريعة تواطؤ مزعوم بين الشاه اسماعيل والمماليك، لكن الحملة الإعلامية وتهويل الخصم المهزوم لم يتوقف إلى هنا، فبعد سنتين من المعركة تداهم قوات الانكشارية في القاهرة مسكن تاجر ايراني ويقتل بطريقة بشعة، لينهب خاير بك امواله ويعده جاسوساً لاسماعيل الصفوي.

يظهر في الكتاب جانب عميق من السياسة العثمانية لم نشهدها في الاقاليم البعيدة، وهو التخطيط الذي يجري من اسطنبول والدوافع الدقيقة للسياسات والفهم والحيطة لأمور بعيدة عن العاصمة.

غير أن التشيع في الدولة العثمانية يعد بحد ذاته لغزاً لاسيما وأن عماد قوتها يستند الى طريقة صوفية شيعية وهم البكتاشيون وحتى فترة متأخرة من عمر الدولة، كما كان العثمانيون في بداياتهم الملجأ لكل من غضب عليه حكام السنة بمغولهم وتركهم وعربهم وفرسهم من الطرق الحروفية والاسماعيلية حتى التنظيمات النقابية السرية مثل الأخية كان فيها ملامح شيعية واضحة. بل يقول وينتر في الكتاب نقلاً عن بحث لجان هاثادي أن سيف الامام علي (ذو الفقار) قد انتشر بين عرب الشرق الأوسط بواسطة الجنود العثمانيين.

مع ذلك، فإن تبعية جماعات من القزيلباش للشاه اسماعيل تبعية عقائدية قد قادت الى سياسات مشددة تتزامن مع تلك الملامح الشيعية في الدولة العثمانية، وطالت تلك السياسات الشيعة الامامية أيضاً واطلقت تسمية القزيلباش على هؤلاء أيضاً إمعاناً في تلك السياسات. ويعد هذا أمراً خطيراً أن تعامل جماعة تتواجد في منطقة بعيدة كلبنان معاملة جماعات ثائرة في حدود الدولة مع ايران، حتى أن كلمة شيعة لم تظهر في الوثائق العثمانية حتى عام 1736 ضمن ما ذكر حول النزعات التقريبية لنادر شاه ومحاولته لنيل اعتراف العثمانيين بالشيعة كمذهب خامس. كما شاعت كلمة “رافضي” أيضاً.

وقد أدى عدم التمييز بين الشيعة والقزيلباشية هذا (والحاصل سهواً أو عمداً) إلى ظهور حالات عديدة اضطهد فيها الشيعة، ولم يكن التمييز حاضراً لدى معظم فقهاء العثمانيين مما ينعكس على سياسات الدولة.

من جهة أخرى فقد يبرر عدم التمييز هذا بمعرفة العثمانيين بهجرة الفقهاء من جبل عامل الى الدولة الصفوية وسعيهم للحيلولة دون ذلك، حيث تذكر احدى الوثائق ذماً بفقيه شيعي عاملي قائلة عنه “رافق اسماعيل ونصره وساعده في نشر افكاره ملقباً نفسه بشيخ الاسلام وما هو الا شيخ المرتدين”، ويعد هذا النص بحسب الكاتب نصاً فريداً حيث يشير الى ادراك العثمانيين للصلة بين جبل عامل والصفويين واستفادة الصفويين من فقهاء الشيعة في جبل عامل بتشكيل “نظرية شيعية للحكم”.

ويذكر الكتاب في القرن السادس عشر حالتين أو ثلاث لاعدامات مذهبية أبرزها كان لفقيه شيعي توجه الى اسطنبول ودرس فيها متنكراً على أنه شافعي، وهناك عرف به شيخ الاسلام (ابو السعود) الذي صادف أن يكون قاضياً بمكة وقتما توجه الفقيه الشيعي (زين الدين بن علي) إلى هناك هارباً فقبض عليه وارسله الى اسطنبول ليعدم بسبب مذهبه، وكان ابو السعود متطرفاً بشدة ضد الشيعة.

وقد ورد في الوثائق العثمانية أيضاً اخطار بتوجيه الحجاج القادمين من ايران الى الشام وتوجيههم نحو مكة من هناك لكيلا يخالطوا أهالي جنوب العراق ويؤثروا عليهم، كما تم انشاء خان لهم خارج كربلاء كيلا يختلطوا بأهل البلد، كما فرضت الدولة رسماً على الشيعة المتوجهين من ولاية دمشق الى العراق لغرض الزيارة الدينية.

من جانب آخر، فقد كان العثمانيون يقدسون المراقد الشيعية ويعطون مكانة خاصة للأشراف ونقاباتهم وتجمعاتهم في البلاد المختلفة رغم أن كثيراً من هؤلاء كانوا من الشيعة.

لكن ماذا عن القرن الثامن عشر؟ هل يُمكن وصف الشيعة بالمضطهدين بشكل عام؟ من المحال، بل كانوا من المفضلين للعثمانيين وإن كان ذلك محصور في لبنان بخلاف غيرها. تصل سلطة الشيعة إلى اعدام مفتي سني في بعلبك حرقاً من قبل حسين الحرفوش، والذي فصل من الولاية وجيء بابن عمه بعد ذلك، وهذا الاخير قام فحرق عائلة المفتي بأكملها. لا يرتبط ذلك بالشيعة كمذهب ربما بل كعشائر تحمل السلاح وتتصدر الساحة بمقدراتها على القيام بالعنف فكانت مفضلة للدولة العثمانية.

الحدود والجباة

من الواضح أن الاقطاعات الضريبية التي قسمها العثمانيون كان لها الدور في صناعة حدود لبنان وتمييزها عن ولاية دمشق القريبة وولاية عكا في الجنوب على الرغم من وجود سلطة إسمية في بعض المدن كوجود متسلم في صيدا لكن السلطة العشائرية القوية كانت لعوائل شيعية ودرزية في القرن السابع عشر ومن ثم للشهابيين. عودة الى الحدود، فإن ما فعله الانجليز والفرنسيون لاحقا لم يكن سوى امتداد لحدود فرضت مسبقا لفترة طويلة وطبقت حتى في أكثر ايام الدولة العثمانية فوضوية وغرضها واحد، وهو منع أحد الولاة او الامراء من تعزيز نفوذه اقليميا. ال الخازن في لبنان كانوا امارة اقطاعية مارونية طلب منهم الباب العالي مطاردة ال حماد الشيعة في نهاية القرن السابع عشر في سهل البقاع فتوقفوا هناك واعتذروا لئلا يتجاوزوا الحدود بين ولايتي طرابلس ودمشق.

يلفت المؤلف النظر الى ظاهرة من ظواهر الحكم العثماني في بلاد الشام والمتمثلة باستقدام جماعات من مناطق بعيدة وتكليفها بجباية الضرائب في مناطق اخرى، فيكون هؤلاء اكثر قسوة ويكونون غير منسجمين مع اهل المنطقة وحالما يندمجون معهم تنتهي عندها صلاحيتهم بالنسبة للعثمانيين. يسوق المؤلف امثلة لعشائر كردية منها ال معن وال جنبلاط الذين تحولوا لاحقا من التسنن الى الدرزية وآل الصعب الذين اصبحوا شيعة اثنى عشرية. وكان جميع هؤلاء حكاما محليين او جباة ضرائب في فترة ما يخدمون العثمانيين وكلهم اكراد الاصل بحسب الكتاب. ولم يناقش الكتاب أصل آل حمادة والعشائر الشيعية في منطقة طرابلس، لكن الأمر قد ينطبق عليهم في القدوم من منطقة أخرى.

يعبر الكاتب أيضاً عن رغبة العثمانيين في اختيار “العصبة التي أسست تفوقها عن طريق العنف” وهذا ما نراه في سلوك آل حمادة تجاه الفلاحين المارونيين والسنة الخاضعين لهم، والذي يصل إلى اغتصاب الفلاحات. لا رادع لهؤلاء الجباة فهم ليسوا جباة فحسب بل هم السلطة الوحيدة وفي أحيان كثيرة يغدو الناس في المرتفعات سجناء للعصبة العنيفة المهيمنة على المنطقة.

يعتبر نظام العثمانيين نظاما للاقطاعيات العسكرية وهو في ذلك امتداد لنظام الاقطاعيات العسكرية الذي كان اول من ادخله الى المنطقة هم السلاجقة، حيث يعين القادة العسكريون كاقطاعيين على اراضي معينة. ولا يمانع العثمانيون من الاستفادة من الاعراب والاكراد والتركمان بما انهم اساسا ينتظمون بعشائرهم في وحدات شبه عسكرية، فتعطى لهؤلاء اقاليم هامشية وتسند إليهم القاب كالبيگ.

لم تعرف لبنان سلطة حقيقية للدولة ولم يكن للمدن شأن كبير فيها على الأقل فيما يتضح في الكتاب، أو على الأقل فإن توزيع النفوذ يرجح الجباة في جبل لبنان وفي سهول البقاع وجنوب لبنان وريف طرابلس بدلاً من أن يرجح المدن ومراكزها. يمكن ملاحظة القوى هذه على الخارطة فمراكز النفوذ نابعة من طبيعة الإقليم بالنسبة للدولة العثمانية، فهو ليس سوى بستان للضرائب، إذاً، فما أهمية المدن؟ وأين سيتركز النفوذ؟ هذا استنتاج جانبي من الكتاب وليس مما ذكره الكاتب.

التحولات السياسية

يبدو المنحى العام أن العثمانيين كانوا يميلون لتوظيف الدروز والشيعة في لبنان في النصف الأول من القرن السابع عشر، وهذا يطغى على جميع لبنان، رغم أن الشيعة كانوا بالنسبة لهم “قزيلباشية” احياناً (ورافضة لاحقاً)، لكن مع نهاية القرن السابع عشر فقد بدأت موجة من التغييرات كان من الواضح فيها الغضب على آل الحرفوش وآل حمادة وغزوهم من قبل ولاية دمشق ومن قبل عوائل متعاونة مع الدولة. لكن لم يلبث هؤلاء أن عادوا بعد أن سكن غضب الدولة.

نجم الشهابيين بدء بالبزوغ في القرن الثامن عشر وتدريجياً بدأوا بالسيطرة على بقية العوائل والمناطق وختم القرن بتحول هؤلاء من المذهب السني الى الديانة المسيحية الكنيسة المارونية. سيطر الشهابيون خلال القرن الثامن عشر على العوائل الشيعية الدرزية وصارت لهم سيطرة شبه كاملة على جميع أراضي لبنان الحالية.

عكرت حركة علي بيك الكبير ومحمد أبو الدهب وظاهر العمر صفو الأوضاع في لبنان حيث دخلها المصريون وظاهر العمر وانضم اليهم الشيعة من جبل عامل، غير أن ذلك لم يغير كثيراً من مراكز الشيعة في الجباية بأنحاء لبنان.

الخارطة أعلاه تُظهر مساحات تخمينية لنفوذ العائلات الحاكمة في لبنان، الشيعة باللون الأخضر، السنة باللون الأزرق، الأكراد السنة باللون الأصفر وآل الخازن المارونيون في جبيل وكسروان في اللون البرتقالي والدروز باللون البنفسجي. تغيرت هذه الخارطة كثيراً خلال القرن، وفي حال عدم تغير بعض العوائل فإنهم أصبحوا تابعين للشهابيين (باللون الازرق) على الأقل للنصف الثاني من القرن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *