نهب ولاة العثمانيين للقبائل أو للإمارات الصغيرة ذات الحكم الذاتي هو أمر شائع جداً حتى فترة متأخرة من عمر الدولة العثمانية. ويعد سرد أوليا جلبي لما عاصره من إحدى تلك الحالات سرداً ثميناً لتركيزه على حيثيات الأمور بلغة محايدة نسبياً رغم كون جلبي في جانب السلطة. كما أن ما سرده جلبي حول ما جرى ببدليس عام 1655 يعد الحدث الأبرز والذي غطى معظم رحلته في مناطق شمالي كردستان (أو جنوب شرق الأناضول).
الخلفية
تبدأ الاحداث في وصول ملك احمد باشا الى بدليس التي يحكمها عبدال خان البدليسي حفيد الخان والمؤرخ الكردي شرف خان البدليسي. ويروي الأحداث أوليا جلبي الرحالة التركي الذي كان مرافقاً لملك احمد باشا نسيب السلطان محمد الرابع والرجل ذو المكانة المرموقة في البلاط العثماني والذي أرسل ليكون والياً على مدينة وان ومسيطراً على الاقطاعيات الكردية ذات الحكم الذاتي في المنطقة. الأجواء يعمها الفرح والسرور ويتفنن الخان بتقديم مختلف أنواع الهدايا والضيافة والعروض الترفيهية للباشا ومن معه في بدليس التي صارت تبدو أقرب الى كونها عاصمة من حيث المعالم الجميلة التي فيها كالحمامات والحدائق التي وصف أوليا جلبي بعضها بأن إسطنبول ذاتها تفتقر لمثلها. وتستمر جلسات الباشا عند الخان حتى لحظة وداعهما بعد أن مشى الخان مع الباشا مسيرة طويلة بين بدليس ووان.
أخذ الباشا الخان جانباً بعد آخر جولة من الهدايا الفاخرة المتبادلة بين الطرفين، وبدأ بتهديده بشكل سياسي مهذب، وفتح السجلات القديمة فذكره بحالة تسليب قام بها على مجموعة من الرعاة في أرضروم التي كان واليها لفترة وكيف أنه عفا عنه، وذكر له حوادث أخرى منها غضب السلطان مراد الرابع عليه قبل عشرين سنة عندما عاد الأخير من تحرير بغداد فلم يأت الخان لتهنئته وهو عائد لاسطنبول. وهكذا تكدر المزاج في اللحظة الأخيرة وتغير كل شيء بالنسبة لعبدال خان الذي ظن أنه باستقباله الحافل قد كسب ود الوالي الجديد والذي كانت له احداث سابقة معه في الماضي أيضاً، لكن هذا كان بمثابة التحذير فحسب ولم يكن قطيعة في العلاقات. الباشا ذكر للخان أيضاً فضل مكانته وضرورة احترامها حيث جعل العثمانيون أسرته حكومة ثابتة متوارثة لا تتبدل كما يتبدل الولاة. ولم يفته أن يذكره بجده شرف خان الذي كان مع الصفويين في البداية ثم انقلب الى جانب العثمانيين ثم عاد الى الصفويين وانتهى لاجئاً لديهم. مع وصول الباشا لوان، كان يبدو أن مسألة بدليس هي هدف أساسي له وكان يضمر أمراً خطط له بعناية شديدة.
خارج قلعة وان كان هناك كميات كبيرة من الأتربة متراكمة بجانب بحيرة وان الشهيرة وهي تفسد المنظر وتبدو شاذة عن الطبيعة المحيطة. فسأل الباشا عنها فقيل أنها وضعت هناك منذ غزوة تيمورلنك أي قبل 250 سنة على الأقل. فقرر ملك احمد باشا أن يتم رفع هذه الأتربة! كيف؟ سيستدعي الحكام المحليين الأكراد ويقوم بما يشبه العمل الشعبي لحمل الأتربة ورميها في البحيرة، وهذا ما حدث. فقد أرسل الرسل للعشائر الكردية المحيطة وطلب من الجميع الحضور برجالهم وجندهم لحمل الأتربة. كان موضوع الأتربة تافهاً ولا أهمية له، لكنه وكخطة أولية كان اختباراً لولاء العشائر المحيطة واستعدادهم لإطاعة الوالي الجديد (أو على الأقل هذا ما بدا حتى الآن).
مع حضور عدد لا بأس به من العشائر وشروعهم بالعمل بادر وان أحد أمراء الكرد محمد بيگ ملازكرت (أو ملاذكرد) مشتكياً من تسليب عبدال خان لـ 40 الف من أغنامه! ثم تبع ذلك حدث آخر، مجموعة من جنود الإنكشارية يدخلون مجلس الباشا ويرمي أحدهم يده المقطوعة أمام الباشا مطالباً بحقه من عبدال خان الذي قتل مجموعة منهم وقطع أطراف مجموعة أخرى وسلب أقمشة كانوا قد جاؤوا بها من الشرق للتجارة. وهنا ثارت ثائرة الباشا وعقد المجلس وبدا جميع الأكراد فيه منحازون للباشا ومؤيدون لغزو بدليس. اقترح الحضور أن اجتماعهم لحمل التراب كان فيه بادرة جيدة وأنهم متواجدون جميعاً وقادرون على الغزو. الباشا هنا لعب دور الحكيم، وقال أن اللجوء للشرع والقانون السليماني هو الحل. أما اللجوء للشرع فهو فتوى المذاهب الأربعة بتكفير عبدال خان واتهامه بالزندقة والالحاد وايواء اليزيديين وبالفعل فقد كان جانب من قواته يتكون من اليزيديين كما كان رجلاً مثقفاً ومطلعاً على العلوم وأمثال هؤلاء يمكن اتهامهم بهذه التهم. وأما القانون السليماني فيقضي باستدعاء الحاكم المراد مقاضاته لمجلس يتم فيه الترافع وتقرير براءته من عدمها.
كتب أوليا جلبي الرسالة كما أملاها الباشا عليه مليئة بالشتائم وتم ارسالها إلى عبدال خان الذي قيل أنه كاد أن ينهار وهو يقرؤها فاتكأ على الحائط وشعر باليأس، لكنه رد رداً سياسياً وشرح الحوادث التي حصلت فقال أن محمد بيك ملازكرت رفض دفع الضريبة فأخذت أغنامه وأن الانكشارية رفضوا ايضاً دفع الضريبة وتخاصموا مع رجاله وجرحوا مجموعة منهم وكانت هذه نتيجة المواجهات ثم صودرت بضاعتهم، وأرفق السجل الشرعي وفتاوى رجال الدين لديه بهذه الأحداث (يرى أوليا جلبي أن الحق مع الخان). ثم وصلت رسالة عبدال خان إلى ملك احمد باشا الذي تظاهر بالاقتناع بها أمام الأكراد المحرضين على الخان فثارت ثائرتهم واستمروا بالتحريض حتى أجتمع الرأي بالسير إلى النقطة التي أقرت لاجتماع الاحتكام والحكم وإن لم يأت عبدال خان فسيتم السير إلى بدليس لمحاربته والقبض عليه ومحاكمته. وبالتأكيد لم يحضر عبدال خان.
سار الجيش وجمع ملك احمد باشا ستين ألف مقاتل معظمهم من الأكراد مع مجموعة من التركمان والقوات الانكشارية الموجودة. وحصن عبدال خان الجبال المحيطة ببدليس ووزع عليها 40 الف مقاتل ووضع المتاريس والخنادق وثبت الصخور وآلات الحرب وصار الممر المؤدي إلى بدليس ممراً عسير المرور لما فيه من مقاتلين وتحصينات على الجانبين.
عند الاقتراب من بدليس تبدأ الظواهر والحالات التي كانت تحدث في غزوات ذلك العصر بالظهور، مجموعات من الأكراد المصطفين مع الباشا يحاولون البدء بالنهب مبكراً فيتجهون في عتمة الليل إلى مساكن الناس محاولين الشروع بالنهب المبكر. لكن جنود الخان كانوا بالمرصاد لهؤلاء فقتل الكثير منهم وأرسلت الرؤوس مع المأسورين الى الباشا. إرسال الرؤوس هو الاجراء السائد في المناوشات التي استمرت طيلة الحصار الذي حدث أثناء شهر رمضان. غزوات صغيرة متفرقة، المنتصر يأسر مجموعة فيقطع رؤوس بضعة أشخاص ويرسلها بيد الآخرين لقيادة الطرف الآخر وهكذا.
ما أنجى بعض الأسرى الذين جاؤوا الى الباشا هو كشف واقع بدليس تحت الحصار، بعضهم يذكرون الجوع والمعاناة التي يمر بها الناس وبعضهم يذكرون أعداد المقاتلين والواقع السياسي ومن جاء ومن لم يأت من العشائر الكردية لمساندة الخان. أحد المأسورين بدأ بكيل المديح للخان أمام الباشا الذي أشار لجلاده بقطع رأسه على الفور. واقترب الأمر من الحسم عندما ذكر أحد الأسرى للباشا أن الناس قد تعبت وأنهم ينتظرون الاشتباك منذ شهر كامل وقوتهم قد نفذ وان الرحمة بهم تتمثل بتعجيل الهجوم.
نزعة الباشا في عدم الثقة بالأكراد – وهم غالبية مقاتليه – تتجلى في لحظة الحسم عندما قرر بدء الهجوم فجمع التركمان الذين معه وسألهم ان كانوا سيثبتون إن تخلى عنهم كل هؤلاء الأكراد أم لا! القتال كان الى حد كبير كردياً – كردياً من الطرفين باستثناء الباشا وجنده الانكشارية والاغوات التركمان معه.
المعركة والنهب
في ساعة الصفر استمر القتال قرابة يومين وقتل ما يقرب من الف شخص من الطرفين مع عدد أكبر من القتلى في جيش الخان. هرب الخان مع بضعة آلاف من مقاتليه وبعض افراد عائلته وبعض كنوزه متجهاً إلى عشيرة أخرى حليفة له في دياربكر. وبدء السلب والنهب في بدليس واستمر فترة ثم اوقفه الباشا وأعدم سبعة ممكن كانوا ينهبون.
تقرير الحالة بعد الانتصار كان يتضمن تحديد خليفة للخان من أحد أولاده، وحسم القضايا المثارة ضده مالياً مثل تسليب محمد بيك ملازكرت وتسليب الانكشارية. ومن أجل ذلك فقد تم اخراج صناديق كنوزه التي يبدو أنها كانت السبب الحقيقي للغزوة، الجميع يرغب بالنهب وبدليس كانت ضحية جيدة للنهب وأول الناهبين هم الدولة. أخذ الباشا أثمن ما وجد وعرض الباقي بالمزاد العلني فبيعت الكنوز من الكتب والتحف بأسعار تافهة وأرسلت معظم الأموال لاسطنبول بعد دفع التعويضات.
ممتلكات عبدال خان كانت مثيرة للاهتمام جداً، فكثير منها كان مخطوطات أصلية لمختلف أنواع الكتب، وكان هناك كتب كثيرة من تأليف عبدال خان نفسه يكتبها بالفارسية كما كان هناك مخطوطات خطها أبنه الذي تم تنصيبه بعده ضياء الدين خان وقد تركها الباشا له. يدل هذا على أن عبدال خان كان مثقفاً وللمعرفة قيمة خاصة لديه، إلى جانب صفات أخرى له مثل الطغيان الذي نعته به بعض مواطنيه وكنز الأموال على عادة الملوك.
بعد انتهاء المعركة افرغت تقريباً خزينة بدليس من كنوزها وتحفها وقتل الكثير من الرجال وخربت بعض معالم المدينة وخسرت رجلها القوي. واستفاد العثمانيون من ثروة جمعت لفترة طويلة تفوق ما يتقاضونه من ضريبة سنوية من هذه المنطقة. وتعرضت الكثير من المخطوطات القيمة للضياع والتلف فمثلاً اشترى رجل متعصب كتاباً للشاهنامه يتضمن رسوم ذات مستوى رفيع جداً فقام بتخريب كافة الرسوم التي فيها والبصق عليها وتمزيقها لأنها محرمة كما يرى ثم رفض دفع ثمن الكتاب فوق ذلك.
الباشا أخبر اوليا جلبي أن الغرض الأساسي للغزوة كان حلماً رأى فيه السلطان مراد الرابع يطلب منه أن ينتقم من عبدال خان لأنه لم يأت لاستقباله، وقد وجد الباشا بعد محاورة رجال الدين والوجهاء في بدليس أن دواعي عبدال خان كانت منطقية مع الانكشارية ومع محمد بيك ملازكرت ومقبولة قانونياً في وقتها. إذاً فالسبب كان النهب فحسب وهذا ما صرح به القادة القبليون بشكل واضح دون أحلام أو دوافع وهمية لتحقيق العدالة.
وبمناسبة الأحلام، فقد كان هناك ما يشبه الصراع الإعلامي بين الطرفين اثناء فترة الحصار، فالباشا يعول على الدين والمظاهر الدينية ويبكي في الصلاة وهو يدعو ويذكر رؤاه الصالحة للناس ويشاع عنه أنه إذا دعا على شخص فستتحقق الدعوة حتماً. أما عبدال خان فقد كان يعول على دهاءه ومعرفته بالعلوم والفنون فالهالة المحيطة به أنه متقن لألف فن وأنه داهية في الحرب وفي الحيل ولم يكن يستند إلى أرضية دينية صلبة لاسيما بتحالفه مع اليزيدية.
أما حول بقية العشائر الكردية القريبة فقد قرروا البقاء على الحياد ودفعوا ثمن ذلك غالياً إذ وصلوا متأخرين بعد انتصار الباشا فاعتقلهم جميعاً وأهانهم وأخذهم معتقلين معه إلى وان ولم يطلق منهم في بدليس سوى شيخ شيروان. يبدو أن خان بدليس كان له سطوة على المنطقة بحيث تردد هؤلاء في الانضمام إلى والي وان في مواجهته معتقدين باحتمالية انتصاره.
حول أوليا چلبي
يظهر أوليا چلبي رجلاً نبيلاً محايداً في روايته للتاريخ رغم قرابته من الباشا وموقعه الرسمي في حكومة الباشا. لعب دور الناصح والوسيط وسعى الى التهدئة بقدر ما استطاع وتوسط لإطلاق سراح الكثيرين من أن يُذبحوا، كان هذا مما رواه عن نفسه ولا نعرف شيئاً عن صحته فكل شخص يُمكن أن يروي عن نفسه أفضل المحاسن. لكن ما نجده غريباً هو أن أوليا جلبي كان من أوصل لنا هذه الصورة عما جرى، فهو في نصه استنكر ارسال أموال بدليس على ظهور الدواب إلى إسطنبول وأوضح أن الباشا استولى على كل ما هو ثمين في الوقت الذي تعرضت فيه المدينة للتخريب وكانت أولى بمال حاكمها لتتم إعادة إعمارها وهو الذي أوضح ذلك مستهجناً دون أن يلوم طرفاً. بدهاء يكتب أوليا جلبي بعض الحوادث عن الأشخاص ويمدحهم أحياناً لكنه يوصل صورة واضحة عن مواقفهم النبيلة أو الدنيئة كما يراها فهو لم يذم الباشا ولم يمتنع عن ذكر أفعاله الحسنة لكنه أوصل صورة كاملة بأن الباشا اقتنع بحجج الخان قبل الغزو وغزا رغم ذلك، وأن الباشا عرف لاحقاً بصدق الخان لكنه لم يندم على فعلته واستفاد من مغانمه وأخذ أوليا جلبي جانباً ليعطيه سبباً آخر، ربما ليبرر الأمر أمام شخص يكتب التاريخ وهو قادم معه لهذا الغرض.