سأسرد هنا خلاصتي وملاحظاتي عن شطر من كتاب الدولة العثمانية في عصر الإصلاحات: رجال “النظام الجديد” العسكري وأفكاره 1836-1914. والكتاب من تأليف أوديل مورو ومن ترجمة كارمن جابر.
في البدء يتوجب الذكر أن هذا النوع من الكتب يتناول الدولة العثمانية من الأعلى من الأسفل، لكن وبما أن الفرق شاسع بين أعلى هرم السلطة في الدولة العثمانية – متمثلاً بمؤسسة السلطان والباب العالي – وبين ما يحدث فعلياً في أرجاء الدولة العثمانية الشاسعة، فإن كتباً كهذه تفتقر للكثير من الصورة الفعلية لما كان يجري فعلياً في ذلك الحين. مع ذلك، كان في الكتاب ما يستحق النظر والانتباه.
تبدو هزيمة العثمانيين أمام الروس محركاً رئيسياً للتحديث في النظام العسكري للدولة العثمانية كما يتطرق المؤلف لذلك مراراً. يمضي الكتاب بعدها نحو مراحل زمنية عديدة حدثت فيها التحديثات فيما بعد المجازر والمطاردات التي حلت بالانكشارية والتي لم يتطرق لها الكتاب إذ يركز على الجانب التنظيمي الرسمي والقوانين الصادرة.
تجنيد المسيحيين يحتل مساحة كبيرة في تسلسل التشريعات. في عام 1839 في خط گلخانه تم إقرار المساواة بين المسيحيين والمسلمين في كل شيء فيما عدا التجنيد.
التجنيد كان انتقائياً بحسب المناطق فمثلاً تم تجنيد سكان الأناضول وروملي فقط لحقبة ما، وكان متبايناً في الوسائل، القرعة كانت شائعة في الدولة العثمانية حيث يتم اختيار مجموعة من شباب قرية معينة بحسب القرعة. أما مصطلح البدل الذي نعرفه اليوم فهو قادم من الدولة العثمانية وكان ثابتاً منذ عام 1855 لمن لا يؤدي الخدمة العسكرية، والبدل هذا كان مفروضاً على غير مسلمين في الحالات الكثيرة التي لم يكن يسمح بتجنيدهم فيها، حتى بعد الغاء ضريبة الخراج عليهم عام 1855. وبسبب هذه الأتاوات، لم يكن منع التجنيد على المسيحيين أمراً محبذاً دوماً رغم عسر التجنيد، فبعد السماح به في حالات معينة بخط همايون عام 1865، حدثت تغييرات قانونية بعد 10 سنوات ومنعت المسيحيين من الخدمة عام 1875 وذلك لإعادة الوارد الذي كان يأتي منهم من الضرائب. هنا نجد المسيحيين من البلغار والأرمن واليونانيين قد تقدموا باعتراضات للسماح لهم بالخدمة العسكرية أسوة بالمسلمين وذلك للتخلص من عبئ الضرائب.
الخدمة العسكرية كانت بالغة الثقل والعسر فقد كانت في قانون الخدمة لعام 1869 تصل الى 20 سنة، وخففت بقانون 1870 الى 5 سنوات وهي طويلة جداً أيضاً.
قبيل الحرب مع روسيا في سبعينات القرن التاسع عشر يمكن ملاحظة جدول توزيع القوات القابلة للتعبئة في ص46 اكثر من ثلثهم في بلغاريا وحوالي الربع في البوسنة والهرسك، 70 الفا من 490 الف في شرق الاناضول حيث قارص وارضروم، جميع الاراضي العربية والاسطول لا تشكل سوى 12% من القوات (58 الف) وليس هذا تموضعا لغرض الحرب مع الروس بل الواقع ان هذا هو الحال. 309 الفا كانوا في البلقان من اصل 490 الف. تعكس هذه الأرقام واقع أهمية هذه الأقاليم بالنسبة للدولة العثمانية.
كثير من تفاصيل الاعفاء في الخدمة العسكرية كانت موجودة في ثمانينات القرن التاسع عشر تحديدا 1886 و 1889 مثل الابن الوحيد لاهله او الاعفاءات للدراسات الدينية او لرجال الدين. ومن الغريب وجود اعفاء للمهاجرين وبمصطلح (مهاجر) بمفهومه الاسلامي الذي يقصد به المسلم الذي يهاجر من بلد الى اخر، يدوم اعفاء المهاجر 6 سنوات، وبالنسبة للاجانب فقد كانوا معفيين حتى لو كانوا مسلمين باستثناء الفرس فقد كان يتم تجنيدهم حتى لو لم يتجنسوا. لكن لا نعلم كيف كان يتم ذلك فيما يتعلق بالفرس، ففي العراق نعرف بأن البعض كانوا يسجلون أنفسهم فرساً ليتخلصوا من الخدمة العسكرية، فهل كانت كفة تلك الفترات هي الراجحة أم كفة الفترات التي كان يتم تجنيد الفرس فيها؟
بشكل عام قادني هذا الثلث من الكتاب إلى فكرة قد لا تبدو قريبة جداً من طابع المحتوى الذي قدمت أعلاه لمحات عنه. الفكرة هي أن الدولة العثمانية كانت تحاول ارتداء هذه الأثواب الحديثة وهي مرغمة أمام فشل أنظمتها القديمة، لكنها بقدر ما كانت تطمح للاستفادة من ثمار التحديث فقد كانت تخسر الكثير في كل خطوة. جميع قواعد العالم الذي قامت عليه الدولة العثمانية وساهمت في ادامته وصنعه تختلف مع ذلك التحديث السطحي الذي تحاول الدولة العثمانية اقامته بشكل متأخر، إنه نظام قائم على الجزية لغير المسلمين وقائم على طبقات مقاتلة قديمة كالانكشارية لها أساسها الاجتماعي، وقائم على فئات شاسعة من مختلف بقاع الدولة لا تنتمي لأرض معينة بل تحاول فقط أن تكسب قوت يومها الذي تشاركه بها اسطنبول لتأتي بعد قرون من ذلك وهي لم تقدم لتلك البقاع شيئاً فيما تطلب من شباب تلك المناطق التطوع للدفاع عنها.