في بدايات القرن التاسع عشر وحيث لم تزل تلك الحقبة فقيرة جداً في التدوين والحقائق حولها وبالنسبة لكثير من العراقيين لا تبدو تلك الحقبة سوى فترة مظلمة مجهولة كلياً، يأتي ضابط انجليزي ليزور الخليج العربي منطلقاً من مسقط مروراً ببوشهر ليصل الى البصرة ويشق طريقه عبر مدن العراق جميعاً ثم يتجه الى ماردين فدياربكر ثم سيواس فاسطنبول. يذكر الطعام والمباني والأحداث السياسية وطبائع الناس الذين يمر بهم بشكل مثير للاهتمام ويمكن أن يعطي فكرة عن واقع تلك الحقبة وما قبلها حيث لم تكن أي من الإصلاحات او المخترعات الجديدة قد دخلت الى المنطقة بعد وكان تلك الحياة هي ذاتها الحياة التي عاشها الناس في العراق في القرنين السابقين على الأقل.
الخليج
يظهر القواسم امراء رأس الخيمة في الخليج العربي بصفتهم قراصنة هاجموا السفن التي كان هيود في احداها ويذكر قصة أخرى لتسليبهم لسفينة بريطانية وشروعهم بقتل بحارتها حتى انقذتها سفينة أخرى بريطانية. كما أن أعمال القرصنة هذه تطال البرتغاليين أكثر. هذا الجانب من الصراع الأوربي الإسلامي في الخليج العربي لم نطلع عليه عن كثب من قبل وقلما يذكر بهذه الصيغة في المصادر العربية التي تذكر بأن البرتغاليين كانوا محتلين فحسب. يقول عن سفن القواسم أن بعضها كان يضم 300 رجلاً و40 مدفعاً.
رداً على حملات القرصنة – التي يصفها هيود بالكثير من التفاعل – يذكر أن بريطانيا جهزت حملة عام 1809 لتأديب رأس الخيمة وقد تمت الحملة ودمرت 53 سفينة من سفن القواسم الكبيرة كما هوجمت موانئهم الأخرى. غير أنهم عاودوا أنشطتهم بعد بضعة سنوات. وكانت رحلة هيود من مسقط إلى بوشهر رحلة محفوفة بالمخاطر والمخاوف فلم يكن هو ومن معه في السفينة يتركون أسلحتهم بل كانوا ينامون معها.
تجاوزت السرد عن بوشهر لكن باختصار فإن بوشهر اقل شأنا من مسقط والبصرة، فيها عدة بيوت فقط والباقي 500 من المنازل الحجرية ثم الاكواخ. لها سور قديم لا يصلح للدفاع وتحيط به ابراج 12 مهترئة. فيها 6 مساجد و3 حمامات و4 كروان سراي ويقدر سكانها ب 12 الف. أما مسقط التي بدأت منها الرحلة فسكانها مع الاجانب قد يصلون الى 47 الف ولوحدهم 30 الف.
البصرة
في نهاية الفصل الثالث يبدأ الكلام عن البصرة ووصوله إليها. يصفها هيود بالمدينة شديدة الاتساخ وبذات المناخ الصحي (وصل للبصرة في نهاية ديسمبر 1816 لذا يصف الجو بهذا الشكل). قيل له أن تعدادها يبلغ 80 الف نسمة، بغالبية ساحقة من العرب، منهم 8-10 الاف من ملاك الأراضي الرئيسيين في المدينة، فيما يبدو أنه يشير إلى أن البقية ليسوا من السكان الثابتين الذين يملكون بيوتاً أو أراضي في المدينة. متسلم البصرة بوضع لا يحسد عليه من حيث عدم مقدرته على حفظ الأمن، بما أن معظم السكان يتبعون قادتهم المحليين كلياً. للمتسلم ألف جندي لهم رواتب ثابتة ويحفظون الأمن الى حدٍ ما ضمن أسوار المدينة (يصف أسوار المدينة بالجدران الطينية التافهة)، أما خارج أسوار المدينة فليس آمناً وللبدو الكلمة العليا فيه وهم مستقلون عن الدولة كما كانوا دائماً.
في البصرة وجد ويليام هيود أحد الانجليز الذين يسكنون هناك لأغراض العمل التجاري، وقد نصحهم هذا بعدم التجول بمفردهم في المدينة وإلا تعرضوا للاساءة من الناس. غير أن هيود يقول إنه من الواجب القول أن أهل البصرة كانوا لطفاء وكانوا يبدون شديدي الفضول لرؤية ازياءهم ورتبهم العسكرية وأن الانجليز بشكل عام موقرون ومحترمون هناك وأن البصرة “ودودة مع البريطانيين مقارنة بالمدن المحمدية الأخرى”.
غادر البصرة بعد أيام متجهاً إلى القرنة التي يصفها بالقرية البسيطة التي لا تحتوي على شيء سوى أشجار قليلة تتوسط الصحراء، بضعة بيوت بائسة، ونقطة عسكرية تركية لمحاربة القراصنة ولجمع ضرائب الجمرك من السفن المارة. الاتراك والعرب في القرنة حذروا هيود والتركي الذي معه وبقية من معه من مخاطر السلب في ذلك المكان ومن الطريق القادم الى بغداد.
من الناصرية إلى بغداد
لم تکن الناصرية جزءا من الخارطة ولا اي اقضية او نواحي في الطريق بين الناصرية والبصرة. حتى ما بعد المنصورية كان الطريق خالياً والمنصورية تقع حيث الناصرية اليوم وهي حي فيها في يومنا هذا. المنصورية هي اكثر مناطق العالم كآبة وبؤسا كما يراها هيود، وبعدها بقليل كان جميع من في القارب في حالة رعب شديد من العشائر المحيطة وكانوا يقضون الليل متمسكين باسلحتهم ويمتنعون عن التدخين في جميع الاوقات حتى لا يمكن رصدهم وسط المنطقة التي يغدو نهر الفرات فيها شبيها بالأهوار او ربما مر القارب بمنطقة اهوار. الاكواخ بائسة جدا (ان وجدت) في القريتين اللتان وجدتا حتى الان، وقد لا يزيد عدد السكان في المنصورية والقرنة على المئات. لا شيء من الامان او اي شكل من اشكال الحكومة كنتيجة لنفوذ المنتفق في المنطقة بل ربما على العكس من ذلك. النقاط العسكرية التركية والتي يصعب ان نتخيل رداءتها في ذلك الوقت تبدو أفضل الابنية التي يمكن رؤيتها.
لكن وبذكر المنتفق، فقد كان من الممكن اخيرا النزول الى البر بعد نقطة معينة حيث اتجهت المجموعة الى اول بناء محترم مبني بالطابوق منذ مغادرة البصرة وذلك في المنطقة التي يدعوها كوت المنتفق والتي لم تعد موجودة بهذا الاسم اليوم. لقد وصلوا الى مقر مشيخة المنتفق حيث يقول هيود “ان القلم عاجز عن التعبير عن بساطة حياة هؤلاء القوم في الخيام، عن الضيافة السخية لدى هؤلاء اللصوص للمسافر الذي يلتجأ لشرف قبائلهم”.
الشيخ محمود 16 سنة هو ابن الشيخ حمود، لطيف وذو كاريزما، سلم له الوفد رسائل متسلم البصرة فجلس يقرؤها ويملي ردوده على مساعديه لتختم وترسل. الطعام العراقي لم يكن متميزا كما نعرفه اليوم بل كان “بسيطا بقدر بساطة حياة هؤلاء القوم”، رز اسود وقطع لحم مقطعة عشوائيا ولم تنظف بشكل جيد بحيث تركت قطع من الجلد على اللحم المطهي، اما تمزيق اللحم فقد بدا وكأنه تم بواسطة الكلاب المتربصة والتي تنتظر حصتها بجانب المكان.
حتى ذلك اليوم تذكر القبائل حملة سليمان باشا الكبير عليهم واعدام شيخ المنتفق ومن ثم الـ 18 شيخا الذين استسلموا. وتلعن القبائل سليمان باشا. اما هيود فيرى تلك طريقة وحشية يتفاخر بها الاتراك لاخضاع العرب.
بعد ستين ميلا من الكوت التي ذكرها وصلوا الى الشطرة وتحديدا في يوم 27 مارس 1817. الشطرة تتكون من بيوت طينية وهي اول بلدة يراها منذ الكوت، استضافهم فيها شيخ يعرفه بابراهيم الحرامي وهذا بدوره كانت ماشيته قد سرقت في الليل مع ماشية أشخاص اخرين في اليوم الذي وصل فيه هيود مع أصحابه. البقاء لم يدم طويلا اذ يظهر التركي المرافق سلوكا بشعا يجعلنا نتسائل عن طبيعة العلاقة بين عامة الترك والعرب، فبينما كانوا بضيافة ابراهيم سال المستضيفون عن هوية وعمل هيود فشتمهم التركي شتما مقذعا وجاء بسيرة جميع نساءهم على لسانه مما ادى لحدث نادر لدى العرب وهو طرد الضيوف بل انهم كادوا ان يقتلوا.
يوم 28 وصلوا مع السيد (شخص متدين رافقهم بعد كوت المنتفق بقليل) الى مكان عرفه بأنه موضع لـ “شيخ حجة” ( Shaikh hujahood ) ويصف فيه الرز بأنه فاخر جدا وان نوعا من الحلوى قد قدم. كما يبدو ان الناس هناك كانوا متدينين اذ قاموا للصلاة والحوا عليهم للقيام للصلاة أيضاً واعتذر هيود بالاشارة الى حذاءه ووضعه كمسافر واعتذر خادمه بالنيابة عنه ايضا. كما ان اتباع الشيخ الحجة هذا سموا صلاة العشاء بـ “اقشام نمازو” وكأنهم اتراك او اخذوا الدين من الاتراك (أو لعل هيود سماه كذلك لعلمه به أو أن التركي قال ذلك). قرب ذلك المكان يصف الطبيعة بالجرداء التي لا تحتوي من النباتات الا ما يستطيع الجمل فقط أكله. توقعي أن الشيخ الحجة هو رجل دين شيعي “حجة الإسلام” وأن تلك المنطقة تخضع لنفوذه مثلما تخضع القرى الصغرى الأخرى لنفوذ العشائر.
في يوم 29 مارس وصلوا اطلال واسط القديمة. حيث كان هناك بعض الخرائب المأهولة والمحاطة بسياج بائس بحسب وصف هيود ويقول انها على الارجح لا تقع بنفس موقع واسط القديمة الأصلي. وظهر يوم 30 وصلوا الى الحي وهي تتكون ايضا من اكواخ مهترئة قليلة ومحاطة بسياج وتقع على النهر. من الحي هناك طريق يؤدي الى الكوت (ثاني مدينة بهذا الاسم بحسب هيود) والتي تقع على نهر الحي، واخر يؤدي الى الحلة.
في الطريق الى بغداد مروا بقبائل تابعة لشيخ المنتفق، ويذكر المناوشات بينهم وبين داوود افندي (يقصد به داوود باشا) وكان حينذاك يعسكر شمال بغداد فيما تحالف المنتفق مع سعيد باشا. مظهر مقاتلي المنتفق كان اشبه بالجيش، عددهم كبير وقلة فيهم النساء والاطفال وهناك بعض الشيوخ لكنهم مقاتلون ايضا، تبدو عليهم الحيوية ومظهرهم بشكل عام أعجب هيود ويقول انه لا يمكن لاي قطعات الصمود بهذه الصحراء كما يصمد هؤلاء.
لكن الوصف المفصل للجيش بشكل عام يغلب عليه التنويه الى عدم الانتظام. ينتشر سبعة الى ثمانية الاف مقاتل على مساحة عشوائية وتجتمع كل عشيرة حول شيخها. هناك عربات ومدافع هنا وهناك، وتحاول احدى المجموعات ان تستعرض امام هيود بالمرور من امامه وجعله تحت ظل سيوفها ورماحها. هذه القوة جزء من 12 الف فارس يمكن للمنتفق ان تأتي بهم كما يقال حينها. كما يذكر ان هؤلاء العائدين سعداء بنصر حققوه داخل بغداد مؤخرا، وانا اعتقد ان تلك العودة كانت القوة التي خرجت من بغداد بعد تذمر سكان بغداد منهم وبعد بقاء داوود باشا بعيدا دون اشتباك فظنت العشائر او اوهم مقاتلوهم انهم انتصروا كعادة العراقيين وذلك ليقوموا باخلاء المدينة وقد طلب سعيد باشا المحاصر ذلك منهم في منتصف الصراع مع داوود باشا.
انعطف هيود بعدها نحو بابل بدلا من الاتجاه الى بغداد (أو أن وصفه غير مرتب بشكل متسلسل زمنياً)، ولم اجد سرده حول بابل مثيرا للاهتمام فقد كان وصفا للمكان يمكن لنا اليوم ان نكتب افضل منه وكان سردا تاريخيا ايضا ومقارنة لاقوال الاقدمين والمحدثين من المستشرقين والرحالة والمؤرخين حول المكان وكل تلك الأقوال غير مهمة مقارنة بالمعرفة التي نمتلكها اليوم عن تاريخ العراق القديم والناتجة عن اكتشافات هؤلاء ومن جاء بعدهم. غادر بابل في الثالث من فبراير. ثم تناول قطيفسون بذات الوصف والسرد التاريخي وبعدها خصص الفصل السادس في وصف العرب وقد تجاوزته ايضا لانعدام فائدته التاريخية وقصوره المنهجي حيث يقتصر على معرفة هيود المحدودة بالعرب.
حقبة المماليك
يبدو هيود مطلعا بشكل جيد على تاريخ بغداد الحديث اذ يصف القرن السابع عشر والوضع الحالك فيه قبل ان يسند الحكم لحسن باشا. يذكر عندما لم تكن هناك اي سلطة للولاة وعندما كان التغيير المتعاقب لهم لا يجلب سوى الضعف والاناركية ويجعل من الانكشارية سادة المدينة والاعراب اسياد البر المحيط بها حتى هجر تجار الاناضول والشام بغداد واسقطوها من حساباتهم ومن كونها جزءاً تقليدياً من طريق التجارة مع الشرق.
لمن لا يمتلك معرفة سابقة بتاريخ الولاة في تلك الحقبة فإن إسطنبول قررت تعيين والي قوي له أسرة ويكون نواة لتأسيس أسرة حاكمة في العراق وهو حسن باشا وقد أصلح الأحوال بعد الفترة التي كان يتم تبديل الولاة فيها بكثرة خوفاً من وال متنفذ يعيد كرة بكر صوباشي. وجاء حسن باشا بعد 7 عقود من استعادة العراق من ايران اثر احداث بكر صوباشي. حسن باشا وطد نفوذه وورثه ابنه أحمد باشا الذي حكم العراق بشكل جيد وتوسع هو ووالده واحتلوا مناطق من ايران اثر سقوط الدولة الصفوية لكن نادر شاه عاد فسيطر على الحكم في ايران وجاء منتقماً فحاصر بغداد مرتين اثناء حكم احمد باشا لها. ولم يكن لدى أحمد باشا أولاد بل كان له ابنتين فقط وكان قد جاء بالكثير من المماليك من جورجيا فزوج ابنته الكبرى عادلة خاتون من أحد كبار هؤلاء المماليك والذي صار لاحقاً يعرف باسم سليمان باشا أبو ليلة.
كان لسليمان باشا الملقب بـ “أبو ليلة” صولات ضد العشائر وبقي الحكم مستقراً في عهده. غير أن زوجة سليمان باشا عادلة خاتون لم تكن تنجب أطفالاً ولم تكن تسمح لزوجها بالزواج او اقتناء الجواري فكان عليه أن يسلم الحكم لأحد المماليك فاستلمه علي باشا الذي كان يلقب بالاعجمي ولا ندري إن كان ذلك لتشيعه ام لأصوله الفارسية أم كلاهما وبكل الأحوال فقد تم اسقاطه وقتله بعد تلك الدعايات واستلم الحكم بأمر من إسطنبول عمر باشا زوج البنت الثانية لأحمد باشا. وبعد ثلاثة ولاة ضعفاء جاء سليمان باشا الكبير الذي شهد البلد في عهده فترة استقرار ثم مات في العام 1802 ليخلفه علي باشا الكهية الذي تم اغتياله وخلفه سليمان باشا الصغير الذي كان متديناً وقيل أنه كان وهابياً وقد غضبت عليه إسطنبول وتم قتله ليأتي عبد الله باشا الذي كان في صراع وحرب مع سعيد باشا وقد رجحت كفة سعيد وانتصر بمساعدة المنتفق. اقرأ عن سعيد باشا في المدونة ويمكن الاطلاع على المزيد من تلك الأحداث في المدونة. نعود الآن الى هيود ورحلته.
الوصف لاحوال سليمان باشا والاحداث التي جرت من بعده يبدو دقيقا بما ان هيود كان قريباً لكل ذلك على الخط الزمني. لم اعلم سابقا ان سليمان باشا كان قد قتل عديله احمد اغا وزوج اخت زوجته من احد اتباعه وهو عمر اغا. ولاحقا لعبت زوجة سليمان عادلة خاتون ادوارا سياسية مهمة ابرزها ضد خليفته علي باشا الكهية الذي لقب بالاعجمي لانه كان شيعيا، فنشرت عادلة اشاعة بانه سمم احد الضباط الخمسة البارزين، وثار غضب الناس ضده لتشيعه ايضا فحوصر وحاول ان يهرب متنكرا بزي امرأة وقبض عليه قرب ابواب بغداد حتى سيق للاعدام وجيء بعمر باشا محله. الاشاعة التي سادت حول علي باشا كانت بانه شيعي وسيسلم بغداد للايرانيين بشكل حتمي.
يتابع هيود احداث سقوط سعيد باشا يوما بيوم، كان معه العرب المرتزقة وثلة من المقاتلين وضده داخل بغداد المماليك الجورجيون الموالون لداوود باشا. والفئة الاخيرة كانت الاقوى داخل بغداد وقد عزلت سعيد عن مقاتليه ليخلو في القلعة مع 400 مقاتل عربي. قتل سعيد بعدها وعذبت طائفة ممن كانوا معه وتوسل هؤلاء فقط لكي يتم قتلهم بسرعة. وهكذا تربع داوود باشا على عرش بغداد.
بغداد
محيط بغداد يبلغ ما يقارب 7 اميال، ليست محاطة جميعها بالاسوار فمن بعض الجهات هناك خرائب فقط. البيوت مبنية من الطابوق ونادرا ما ترتفع لاكثر من طابقين. ولا نوافذ على الشارع او هناك نوافذ شديدة الضيق (كسائر المدن الاسلامية على حد وصفه) وكما يبدو من ملاحظات هيود فليس هناك اي شناشيل. عموما يبدو هيود معجبا بالمساجد ببغداد بمنائرها وقبابها والنقوش الموزاييك عليها (ربما يقصد التقوش الاسلامية الكاشان). ويذكر ان بغداد كانت تتكون من سبعة اقسام احدها يدعوه الشيخ (ولعله باب الشيخ اي المنطقة المحيطة بالشيخ عبد القادر) كما ان قسمين من تلك الاقسام السبعة يمثلان القلعة الداخلية والقصر وهما مما لم يعودا موجودين في عصرنا، ويذكر ان الاحياء الشرقية تبدو اكثر تواضعا.
سكان بغداد بحسب هيود هم 200 الف ويمكن للمدينة ان تأتي بجيش من 30 الف مقاتل لكن سكان المدينة قاصرون عن التجول بحرية وسهولة في الصحاري التي تحيط بها وتحديدا من الجنوب نظراً لمخاطر التسليب من العشائر. يذكر هيود ذلك لانه وبشكل مثير للدهشة كان يرسم خطة لاحتلال بغداد قبل 100 سنة من احتلالها، كعسكري يدون هيود ذلك دون ضرورة وجود خطة سياسية لعمل كهذا. يذكر هيود أن بغداد ثانوية الاهمية وتتلخص اهميتها بكونها نقطة ضعف يمكن احتلالها بسهولة ومن ثم استغلال موقعها ضد الفرس والترك، هذه هي اهمية بغداد فحسب. لكن لماذا كانت بغداد مستعصية على نادر شاه؟ يدون هيود ملاحظاته عن سلاح المدفعية لنادر شاه وذلك من خلال دراسته لاثار الضربات، فيقول ان قوة نادر شاه تبدو وكأنها كانت مكونة من المبتدئين وان بغداد ما كانت ستصمد لو كان المهاجم قوة اوروبية وهذا من حسن حظها الى جانب كونها مدينة غير مهمة.
يستمر هيود بالتعقيب على خطة احتلال المدينة فيقول انها قد تسقط خلال يومين وان سكانها لا دور لهم بمن يحكم وان نصفهم من الشيعة (دون ذكر ذلك كسبب لامكانية سقوطها او لتعجيل سقوطها) وان شيعة المدينة هم من اصول فارسية في حين ان سنتها هم اتراك وعرب (من الواضح خطأ احد الثلاثة تعداد السكان او نسبة الشيعة او كون الشيعة فرس فتعداد الفرس الشيعة لم يبلغ سوى 50 الف في العهد الملكي). المسيحيون 160 عائلة تتوزع بين الارمن، الروم الكاثوليك، والكنيسة المشرقية (ليس لدى هيود معلومات جيدة حول الطوائف المسيحية بالضرورة).
مجلس الحاكم يتكون من المفتي والقاضي بالاضافة الى حكام البصرة والحلة وماردين ويسمى مجلس الحاكم أيضاً الديوان (المصطلح العشائري جاء على الاغلب من هذا).
يشيد هيود بلطف سكان بغداد وتمدنهم في التعامل مع الاوربيين ويشيد أيضاً بأسواق بغداد والفاكهة التي فيها والتي ليس لها مثيل في أي مكان.
كردستان وما بعدها
كفري هي أول قرية في كردستان مر بها هيود ويصفها بأنها قرية نظيفة صغيرة محاطة بجدار وشديدة الجمال. لم يمر قبل كفري سوى بقريتين وهما دوخلة والتي ليس هناك أي وصف حولها سوى أنها قرية تقع بالقرب من كروان سراي موجود هناك كما لم يكن هناك وصف يذكر لدلي عباس.
اول تجمع او مخيم للاكراد صادفه هيود بعد كفري لم يكن معلوم الموقع لكنه قريب من كفري، وصف سلوك الاكراد فيه بالفظ وتحسر على كرم العرب اذ رفض افراد ذلك المخيم استضافتهم والتعاون معهم بأي شكل بل كانوا ميالين الى نهبهم. “لقد كانوا عرقا اخر، مختلفين كليا بطباعهم واصولهم وعاداتهم عن هؤلاء الكرماء الخارجين عن القانون. ازياؤهم تشمل معطفا من الصوف يرتديه الرجال والنساء، وحزام جلدي يعلق به الرجال خنجرا.
الطريق الى السليمانية كان وعراً جداً إلى درجة أن أحد الاحصنة سقط في أحد الوديان. ثم وصل الى السليمانية، كان محيط المدينة ميلين، بيوتها من الطين، سكانها 12 الى 15 الفا جلهم من الاكراد سوى اقلية صغرى من الارمن واليهود المتواجدين لأغراض تجارية. ولا انسى أن اذكر انه تكلم عن قرية وصفها بالجميلة اسمها دولان قبل السليمانية.
الطعام الذي قدمه الوالي كان اشبه بالطعام الفارسي والتركي على حد وصف هيود وقد قدمت اطباق عدة أحدها كان بحسب قوله الطبق الكردي التقليدي والذي كان يخنة الارانب. يعتقد هيود ان الارنب قد تم تعفينه كليا قبل وضع الدم والدهن والبهارات والثوم عليه لطهيه وقد تنازل هو عن حصته منه لأن رائحته لم تكن تحتمل وتبدو رائحة حيوان ميت. فهل كانت هناك طريقة تعفين خاصة باللحوم وشائعة في تلك المنطقة على غرار الطرق المتبعة مع السمك في البصرة (المصموطة) او في مصر (الفسيخ)؟
قرية قولى خان كانت اول مكان بعد السليمانية وقد كان الكوخ فيها بائسا لكن الطعام كان لذيذا ويتكون من الطرشانة المسلوقة والرز كما ان السجاد اثار اعجاب هيود. يلتفت هيود ايضا الى مقابر في الطريق تشير بالنسبة له الى مناطق كانت مأهولة اكثر مما هي اليوم حيث يخلو الطريق من اي مدن بعد مدينة السليمانية. وصف المدن والأماكن المهجورة يبدو سمة لتلك الحقبة إذ يتكلم أوليا جلبي عن الأمر ذاته قبل 200 سنة ويتكلم هيود أيضاً عن قرية بين بغداد وكفري يبدو أنها كانت مأهولة في يوم من الأيام كما أن الخرائب والأماكن المهجورة في بغداد توحي بأنها كانت أكثر حيوية في السابق.
كويسنجق تأتي بعد السليمانية وهي اجمل واكبر من السليمانية كما يرى هيود وقد يبلغ سكانها 12 الف نسمة. فيها قباب جميلة وجسر قديم فوق نهر صغير وفيها ايضا حدائق بجانب النهر.
وفي الوقت الذي لم يتطرق فيه هيود للنساء لدى العرب الا في مواضع محدودة فهو يبدو معجبا بالنساء الكرديات اذ يمتدح جمالهن ويصف ازياءهن وملازمتهن للازواج ويقول عنهن بأنهن امزونيات (النساء المقاتلات).
يصف هيود الاكراد بأنهم “لصوص بالفطرة” وكان قد وصف العرب بأوصاف مشابهة كثيرة بأنهم نهابون وخارجون عن القانون لكن بشكل عام لم يذكر هيود حذره وخوفه من المحيط في المناطق الكردية مثلما وصف ذعره وذعر مرافقيه في جنوب العراق. إذ لا يصف هيود موقفه في كردستان بالخوف رغم وصفه للأكراد بأنهم لصوص.
يصف هيود حكومات الأكراد بأنها تتكون من باشوات يتبعون لايران او للعثمانيين حيث تنقسم كردستان بين هاتين الدولتين.
في اربيل يذكر اصنافا كثيرة من الطعام قدمت له من قبل الحاكم ويذكر وجود فرقة موسيقية تعزف اثناء الطعام رغم بغضه الشديد لتلك الموسيقى التي قال عنها انها “لن تعجب الا تركي”. لكنه يصف المدينة بالقذرة والتي تتوسطها خرائب قلعة تقع فوق تل اصطناعي. مما يشير الى ان السكن خارج القلعة كان شائعا وواضحا وليس أن أربيل كانت تقتصر على القلعة فقط في ذلك الوقت. التركيز على الازقة الوسخة كان واضحا. وعن سكان اربيل فهم حسب وصفه مزيج كبير من ترك وكرد وعرب ويهود ومسيحيين ويزيدية.
وصل هيود بعدها إلى الموصل وأول ملاحظة مثيرة للاهتمام هي أن النساء في الموصل لا يوثقن حجابهن كما في بغداد. في الموصل قرابة 45 الف شخص ثلثهم من المسيحيين ويقطنون في 1600 بيت. اعجب هيود جدا بالحمامات والمساجد وقال ان هناك 12 منزل خانه (فنادق) وهو ما لم يذكره في اي مدينة اخرى سابقة. هناك تجارة عامرة للسجاد والادوات المعدنية وسروج الخيل مما يدل على حالة اقتصادية افضل من المدن التي زارها كما يقول. يصف الموصل بانها مزدحمة وان تعداد كل بيت قد يصل الى 7 اشخاص، كما يقول ان هناك الكثير من الاثار في المدينة.
مع الارتفاع شمالا تزدهر المدن أكثر، البيوت الحجرية في ماردين اعجبت هيود جدا ورغم عدم انتظام الشوارع غير انها كانت نظيفة جدا. السكان 20 الفا لم يذكر فيهم الاكراد وذكر المسيحيين بشقيهم النسطوري والارمني اولا. وقد قيل له ان ثلثي المدينة مسلمون (2000 بيت)؛ مع ألف بيت للمسيحيين.
الرقي يظهر في ديار بكر، حيث لا يتوقف هيود عن وصف جميع نواحي جمال المدينة وهو يصف اشياءا ظننت لوهلة انه غافل عنها فحسب، غير ان المدن السابقة كانت تفتقر لها على الأغلب. الشوارع العريضة المبلطة، القصر الفخم للحاكم، وحدة الاحجار السوداء المستخدمة في المباني والسور والتي تعطي هوية مميزة للمدينة، نظافة الشوارع، المساجد والكنائس المبنية بشكل جيد جدا. وعن الوجبة التي تناولها مع الباشا فهو ايضا لم يصف طعاما مع أحد الزعماء كما فعل هنا، الاطباق تقدم بالطريقة التركية طبق ثم طبق والأطباق كانت جيدة وشهية.
تقدير سكان ديار بكر يصل الى 55 الفا وذلك من عدد بيوتها ال 11 الف فتبقى بغداد هي الاكبر من بين هذه المدن 200 الفا. ومع ان بغداد بحسب وصفه كانت كثير من نواحيها مهجورة.
ليس هناك وصف لمدن أخرى حتى إسطنبول سوى وصف موجز لسيواس التي يقول عنها أنها مدينة وسخة ومبنية بشكل رديء. اماسيا ايضا وسخة وعثمانجك جميلة بقلعتها والجسر الممتد فوق النهر.
خلاصة حول الثقافة والحياة اليومية
يستطرد هيود كثيراً في وصف أحداث الرحلة والخلافات اليومية مع مرافقيه وانطباعاته الشخصية وفي وصف تفاصيل غير علمية أو غير دقيقة عن الشعوب وليس لها قيمة سوى أنها ملاحظاته الشخصية. وهو أيضاً شخص غير ذو خبرة كبيرة في المنطقة. وهذا ما يقلل من قيمة كتابه غير أن مسار الرحلة والمدن التي مر بها والأخذ بنظر الاعتبار أن نفس الشخص يقدم الملاحظات عن هذه المدن وهو شخص ذو خبرة جيدة بالمدن الإسلامية كل ذلك يعطي قيمة للكتاب ويجعل الكتاب مناسباً لتوفير مقارنة مقبولة بين المدن التي زارها.
لدى هيود تحامل كبير على الاتراك ساهم مرافقه التركي – الذي أسندت مرافقته له من قبل والي البصرة – في زيادتها حيث يصف بأوصاف قبيحة جداً فيقول مثلاً أنه “قذر جداً حتى مع الاخذ بنظر الاعتبار بأنه تركي”، ويبدو بالفعل أن ذلك التركي شخص مذموم إذ لطالما قام بالتجاوز على العرب دون سبب واهانتهم لدرجة أنه تم طردهم من أحد المضايف بسبب سلوك ذلك التركي. يقول هيود أيضاً عن الالحان التي استمعوا لها بينما كانوا يتناولون الطعام لدى حاكم أربيل أنها “سيئة لدرجة أنها قد تؤنس شخصاً تركياً فقط”.
كما أوضحنا فإن انطباع هيود بشكل عام عن العرب كان جيداً، احب كرمهم وبساطتهم وحتى عدم انتظام جيشهم في الصحراء كان مترافقاً مع الإشادة بقدرتهم على القتال والتعبئة في تلك البيئة القاحلة وقد أفرد فصلاً في الحديث عن صفاتهم بالجيد والسيء منها ولم الخصه هنا. على عكس الانطباع من الأكراد الذي كان سلبياً جداً رغم اشادته بالمدن التي يتواجد بها الأكراد وبنساء الأكراد.
المدن تبدو أفضل كلما اتجهنا شمالاً والمخاوف من اللصوص وقطاع الطرق تنخفض كلما اتجهنا شمالاً والفكرة عن المدن والأماكن والقرى المهجورة تتكرر كثيراً في كل مكان.
العراق في وقت هيود صغير جداً بتعداد سكانه الذي قد يكون أقل من نصف مليون نسمة وهو فقير للغاية لم نر فيه أي وصف للمزارع والمزارعين الا بشكل نادر حيث ذكر الفلاحين والزراعة في سيواس فقط. ويطغى الرعي على النشاط الاقتصادي ويليه النشاط التجاري الباهت من طريق البصرة نحو الشمال أو من طريق أصفهان نحو بغداد وهذه الطرق بلا شك طرق ضعيفة جداً لاسيما بعد استغناء الاوربيين عن العراق والمنطقة بشكل عام كممر تجاري منذ اكتشاف رأس الرجاء الصالح وحيث لم يعد العراق يوفر طريقاً للتجارة سوى لمناطق محدودة جداً في الاناضول وهو لا يصلح لذلك نظراً للخطورة الشديدة في جنوبه.
ادارياً فالسلطة موجودة داخل المدن وهي تتألف من طبقات وفئات من المرتزقة المحليين، الانكشارية المحليون والمعينون من اسطنبول، المماليك، وهذا عدا فئات أخرى لم يطلع عليها هيود أو أنها تندمج ضمن هذه التنوعات. عند قراءة الكتاب يبدو أن عدد الحراب والسيوف والبنادق في البلاد أكبر بكثير من المعاول والمطارق هذا إن كان هناك أي معاول أو مطارق (كناية عن الصناعة والزراعة). وبالتالي فإنه يصعب على أي سلطة أن تثبت نفسها في بلد كهذا.
بشكل عام لم نر في الكتاب أي مظهر للجمال في المدن سوى القباب والمنائر إن وجدت، وفي جنوب العراق كان من الصعب أن نجد ذكراً لأي بناء بالطابوق سوى بعض الأبنية في البصرة والمسجد لدى المنتفق وعدا ذلك فالأبنية هي أكواخ طينية فقيرة جداً أو صرائف. وعدا ذلك لا نذكر أي أبنية أعجبت هيود سوى بعض الأبنية في الموصل وكويسنجق وكانت دياربكر هي الأفضل وتليها ماردين كما أعجبته أسواق بغداد. الأبنية في المدن هي الحمامات، المساجد وملحقاتها من المدارس الدينية، المنزل خانه أو الخان وهي دور المسافرين او الفنادق ولا يرد لها أي وصف بالاستحسان او الذم ويبدو أنها كانت أبنية بسيطة في الغالب تضم أماكن لربط الحيوانات وباحات مفتوحة للجلوس والنوم كما في الخانات المتبقية التي نراها اليوم، وأيضاً هناك مراكز الحكم كالقصر والديوان وبعض المكاتب، هناك النقاط العسكرية، الأسواق، وأخيراً المقاهي.
من الجيد أن هيود تطرق لوصف الطعام في المدن التي مر بها، الوجبة التي أكلها عند السيد في الجنوب كانت مقبولة وشبيهة بالطعام العربي اليوم، ولم يكن هناك شيء يذكر في بغداد، ثم كانت الوجبة من لحوم الارانب المتعفنة في السليمانية والتي أظهرت جزءاً من المطبخ المحلي رغم أنها كانت مقرفة وغير موجودة اليوم ومن ثم الطرشانة التي ما زالت موجودة حتى يومنا هذا في العراق بشكل عام وليس في كردستان فحسب. ورغم كثرة الأطباق وتنوعها في أربيل لكن لم يذكر فيها مدح أو ذم، الطعام الجيد بالنسبة لهيود كان في دياربكر فقط ولم يكن محلياً بل كان على الأغلب معد من طاه تركي مرافق للوالي. وهكذا الحال في معظم المناطق فلم يكن هناك وصف لطعام الناس اليومي بل كان الوصف للوجبات لدى الوجهاء والحكام ربما باستثناء سيواس حيث أن الطعام وصف بالممتاز رغم الوصف السيء للمدينة وقد وصف النبيذ والخبز في ماردين أيضاً بالجيد جداً ووصف الإفطار بالتفصيل لأول مرة في سيواس حيث يتكون من القشطة السميكة والعسل والخبز في الوقت الذي كانوا يقضون فيه أياماً في الصحراء في العراق دون أي طعام سوى خبز الري (rye bread) والتمر اليابس أو حتى خبز نعته بالشديد السواد قرب الموصل.
القهوة كانت جزءاً أساسياً من الحياة اليومية، كان هناك مقاهي في بغداد (قهوة خانة)، وكان لدى هيود ورفاقه طريقة لتحضيرها بينما كانوا يسافرون، وكانت تقدم لدى الوجهاء وفي مجلس الوالي والديوان. وكانت أيضاً سلعة متداولة مهمة.
النبيذ لم يكن له ذكر سوى في ماردين، كما ذكر نبيذ شيراز ضمن المواد التي كان الناس يتاجرون بها في بوشهر. وذكر أيضاً أن التركي شرب الخمر مع مجموعة من الدراويش عند الخروج من البصرة غير أنه لم يذكر نوع المشروب وكان قد مقت حالة السكر التي كان بها هؤلاء، كما شرب رفاق هيود في الموصل ولم يبلغوا حالة السكر التي يريدونها. يصف هيود كلام الأتراك عن الخمر بأنهم يتظاهرون بالاشمئزاز من الخمور القوية لكنهم في الحقيقة يستغلون أي فرصة للشرب حتى الثمالة وليس لديهم أي مفهوم لشرب النبيذ بالحد الذي يجعله ملهماً بل يكونون سعداء فقط عند الشرب حتى الثمالة.
الموسيقى وهي الجزء الآخر من الثقافة لم يكن لها وصف سوى في مواضع محدود مثلا في أربيل وهي لم تعجب هيود على الاطلاق ووصفها بالعنيفة وغير المهذبة. كما يذكر أن المقاهي في بغداد كان فيها من يغني أغاني تمجد بطولات سليمان باشا الكبير لكنه لم يذكر رأيه بتلك الأغاني وربما لم يسمعها. كما يذكر أن هناك أغنية يتم تداولها في شوارع بغداد حول مقتل علي باشا الكهية ولا ندري إن كان يقصد بهذا شعراً يتم تداوله أم اغنية لقصيدة فقط. وأيضاً كان هناك أغنية حرب لدى مقاتلين مسيحيين بين الموصل وماردين كانوا برفقتهم وكانوا مستعدين لمواجهة قوم ظنوا أنهم من قطاع الطرق. وكان هناك شخص كردي يرتدي فراء دب وله شعر طويل ويغني أغنية تمجد بطولات في العصور القديمة كما يقول هيود وعلى الأرجح فقد كان يغني اغنية تتضمن قصة شعبية كردية. إذاً فالغناء لم يكن موجوداً في جنوب العراق أو هذا ما رآه هيود على الأقل، وهو موجود للترفيه في المقاهي ببغداد وموجود أيضاً بأنماط شعبية لدى الأكراد وبأنماط تصلح للطبقات العليا في المجتمع كما هو الحال مع الفرقة الموسيقية لدى حاكم أربيل.
هناك تجمعات لليهود في كل مكان منذ الحلة فما فوق مع الكثير من اليهود في بغداد والذين يعيشون في حالة اضطهاد شديد يستنكره هيود. ويتواجدون أيضاً في المدن الكردية دون ان يتطرق لواقعهم هناك وهل هم مضطهدون أم لا. ربما المدينة الثانية من حيث عدد اليهود فيها مما مر به هيود هي ماردين. أما المسيحيون فيذكر وجود 160 عائلة منهم في بغداد فقط من جميع الطوائف. ويذكر وجود المسيحيين أيضاً في أربيل والثقل الأكبر كان في الموصل حيث يقطن 12 الف مسيحي مع ثلث سكان ماردين البالغين 20 الفاً. لا يذكر هيود أن هناك نوع من الاضطهاد للمسيحيين ويذكر موقفاً حصل مع شخص أراد منه اكرامية فرفض هيود ذلك فنعته بـ “كلب، مسيحي كافر”، فدقه هيود بمقبض سوطه وقال له انا لست مسيحياً بل أنا ضابط انجليزي. لا يعني هذا بالتأكيد أن المسيحيين يعيشون حياة جيدة وأن اليهود مظلومون دائماً لكنه على الأقل ما لاحظه هيود في تلك الفترة وفيما رآه بشكل محدود جداً.
هذه هي المجالات التي استطعت تغطيتها وركزت عليها اثناء قرائتي للكتاب والكتاب كان ممتعاً بشكل عام.