بعد الكثير من الوقت على قرائتي لكتاب بدائع الزهور لابن أياس ما زالت الملاحظات الاقتصادية التي كتبتها في ذهني وفي سجل ملاحظاتي ولاسيما شبه بعضها بالسياسات التي تنتهجها الحكومات العربية والحكومة المصرية خاصة عند حالات الضعف الاقتصادي لغرض إدارة سلوك الناس وتوقعاتهم وذهنيتهم.
بعد سنة من الاحتلال العثماني يذكر ابن اياس حوادث ذات دلالات على انهيار الوضع الاقتصادي وخلاء الخزينة، واولها ظاهرة يذكرها مرتين، حيث يجتمع المماليك الشراكسة ويعتصمون امام القلعة مطالبين بالجامكية (الرواتب) الخاصة بهم، وفي البداية لم يحصلوا على شيء اما بعد سنة فقد صرف لهم راتب واحد وقطع راتب شهرين. لا يكتفي ابن اياس بذلك بل يسرد بوضوح ويلخص مردود مصر الضريبي في الحقب السابقة وانخفاضه الى اكبر حد في تلك الحقبة. وبغض النظر عن صحة قياسه ودقة أرقامه، فإن هناك أمر ملحوظ بأن هناك انخفاض كبير في مردود مصر من الغلة وما ينعكس على ذلك من رواتب ومن خراج يرسل الى إسطنبول.
أيضاً يرى ابن اياس أن من أسباب ذلك هو ارسال الأموال الى إسطنبول وتوقف واردات الحجاز والشام والتي كانت تأتي لمصر عندما كانت القاهرة عاصمة، أما اليوم فصارت واردات خراج هذه الأقاليم تجمع في القاهرة وترسل الى إسطنبول وتدفع مصر أيضاً مثلما يدفع أي إقليم بعدما كانت عاصمة ولا تدفع ضريبة لأحد.
التقشف وتقليل مصاريف المهرجانات والطقوس
الحادثة الثانية التي تظهر تدهوراً اقتصادياً ملحوظاً قصير المدى كانت مع القراء في المولد، حيث احتج القراء على المبالغ التي اعطيت لكل واحد منهم ومقدارها اشرفين، فقالوا لقد كان يحصل كل منا على مئة اشرفية فكيف نرضى باثنين الان. ومن مظاهر البخل والتقشف ان خاير بگ وزع خلعا على الوعاظ في المولد لكن حال انتهاء الحدث استردها منهم واعطاهم مبالغ تافهة. اما السماط (السفرة ربما) فقد كان الطعام قليلا وسرعان ما اجهز عليه الانكشارية دون ان تبقى فرصة للوعاظ لتناول الطعام.
من مظاهر الضعف الاقتصادي أيضاً تقليل طقوس ومراسيم المولد بكل ما فيها من تزيينات وزخارف وخيم (بيعت الخيمة الكبرى للمولد الى التجار المغاربة عندما كان السلطان في مصر)، ويحزن ابن اياس على هذه الأمور بشكل بالغ حيث يهتم بشكل الملابس وأشكال التزيينات ويمعن في وصفها وربطها بالدلالات حول هيبة الدولة وعزها وهذا هو الحال واقعاً حيث يقيس العوام هيبة الدولة بهذه الأحداث وما زالت الحكومة المصرية تقيم مهرجانات مشابهة آخرها مهرجان نقل المومياوات ودون أي غرض آخر سوى هذا الغرض. الأمر الذي لا يمكن أن نراه في بلاد عربية أكثر اضطراباً كالعراق، أو في بلاد أكثر غنى او فقراً بحيث تنعدم الامكانية أو الحاجة لاجراء مثل هذه الاستعراضات.
الشح لدى الدولة بلغ حداً جعل خاير بك يترك سنة أخرى كان يقوم بها وهي توزيع الأضحية في العيد. في عيد سنة ٩٢٥ ايضا كانت الاضحية باهضة الثمن، ولم يقطع ملك الامراء خاير بك توزيع الاضحية فحسب بل فعل الامراء ومشايخ الزوايا الامر نفسه.
النهب
في عام ١٥١٨ اعدم تاجر ايراني غني من قبل خاير بك بغية الاستيلاء على امواله والتهمة هي التجسس لصالح الشاه إسماعيل. وهكذا جرى مع احد السفن الافرنجية التي تم نهبها بحجة أنها سفينة قراصنة. هذا السلوك أيضاً وارد اليوم في كثير من الدول العربية، وفي بعض الأحيان لا يحتاج الى مبرر مثل التخوين، لكن في مصر فإن التخوين من هذا النوع ضروري لكي تقوم الدولة بعملية النهب بهذا الشكل. وكذلك فقد تم نهب مجموعة من التجار الافرنج داخل القاهرة.
مراقبة الأسعار
الجانب الآخر المثير للاهتمام هو تحكم الدولة بالأسعار وفرضها اسعاراً معينة وبذلك تلعب الدولة دور البطل الحامي لحقوق الفقراء بوجه التجار الجشعين. وفي حالة مصر بذلك الوقت يظهر القاضي عبد العظيم الذي عينه خاير بگ بطلا للفقراء امام التجار والبائعين وتعبر افعاله عن تاريخ طويل للسلطة المصرية في التحكم بالاسواق. يتجول القاضي عبد العظيم ويراقب السوق ويمكن أن يصدر منه حكم فوري بقتل أحد البائعين الذين لا يلتزمون بالتسعيرة. لا تجرؤ الحكومة طبعاً على استلام زمام الأمور بل تترك تلك الحرية النسبية في السوق لكنها تجعل التاجر هو الضحية الأول في حال تدهور الوضع الاقتصادي. يشبه ذلك عملية اعدام صدام للتجار في فترة الحصار. القاضي عبد العظيم شرع بالنزول الى الاسواق في القاهرة ومعه الحسبة وبدء بضرب الخبازين والبائعين لتحديد الاسعار، ووصل الامر الى خوزقة وشنق بعض التجار الى الحد الذي صار فيه التجار والباعة يخافون على حياتهم ويبيعون بأسعار الدولة، وهنا يتفق ابن اياس مع سياسة الدولة هذه ويراها بطولة ويشيد بمدح الناس لها، لقد انطلت الحيلة حتى على ذلك المثقف.
وقد تبدو الأحداث هذه غير مترابطة عندما تمرد جان بردي على العثمانيين لكن ذلك كان مسبوقاً برفضه لدفع الضريبة لخاير بك. لماذا وضع جان بردي الغزالي حاكم الشام المملوكي الموالي للعثمانيين حياته ومستقبله السياسي على المحك وخسر رأسه في نهاية المطاف؟ قد يكون السبب اقتصادياً وأنه كان سيحل به ذلك المصير عاجلاً أم آجلاً وسط ذلك الضعف الاقتصادي لأنه لن يستطيع أن يدفع شيئاً.
مقياس النيل
من الإجراءات الطريفة لادارة ذهنية الناس في تلك الحقبة هي ما يتعلق بمقياس النيل. حتى يومنا يمكن زيارة الموقع الأثري لمقياس النيل وهو عمود مؤشر يقع داخل بناء متوسط الحجم على ضفة النيل المجاورة لجزيرة المنيل. ما الغرض من المقياس؟ الغرض هو معرفة مستوى نهر النيل وهل هو منخفض أم مرتفع. لكن لو عرفنا أن النيل منخفض ولو عرفت الحكومة بذلك فهل يُمكن أن تفعل شيئاً؟ ليس هناك شيء يذكر يمكن فعله في الواقع، هناك بعض النواظم الصغيرة على الترع فحسب وهذه لن تؤثر ولن تقي من الشح. باختصار ليس بيد المصريين فعل شيء في ذلك الوقت اذا انخفض مستوى النيل، لكنهم يعكفون على مراقبة مقياس النيل ويصل الأمر إلى خاير بك نفسه.
في ايام الجفاف وعند ملاحظة انخفاض مستوى النيل في المقياس فإن خاير بگ كان يتخذ اجراءات دينية مفاجئة فيظهر في المسجد فجأة ويمنع الخمارات وبائعي الخمور واماكن تدخين الحشيشة (وفي ذلك آثار اقتصادية أيضاً إذ ستنخفض المصاريف على هذه الأماكن أو ستزداد الرشاوى من أهل الخمارات وأماكن تدخين الحشيشة). تكرر ذلك لمرتين او ثلاث خلال السنتين الاولى من حكم خاير بك وفي احدى المرات وجه الجنود مباشرة للاتيان بقوادة مشهورة في القاهرة اسمها انس فاحضرها للقلعة وامر باغراقها. في الوقت الذي لا يستطيع خاير بك أن يفعل شيئاً لرفع مستوى النهر فهو يستغل الأمر لنهب جهات معينة أو جعلها أرضاً خصبة للرشاوى. وأيضاً وفي ظل الضعف الاقتصادي الذي ليس له يدٌ به يظهر أمير الأمراء بمظهر التقي الورع الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعاقب المفسدين (ربما ليدفعوا له أو ليخاف الآخرين فيدفعوا). قد يكون خاير بك مؤمن بأن تلك الإجراءات ستسهم برفع الغضب الإلهي وإعادة مستوى النيل مرة أخرى لكنه في الوقت نفسه مستفيد كلياً مما يجري لتعزيز حكمه وإدارة ذهنية الناس وتوجيهها نحو المقياس ونحو أفعاله بدلاً من التذمر من الحكومة.
سبيل العودة لاحقاً لسائر الظواهر الفساد كالخمور والحشيشة والمومسات كان بوساطات من الجنود الاصبهانية والانكشارية الذين كانوا يرتادون اماكن الدعارة ويتعاطون الخمور. او ان الاجراءات تختفي تلقائيا مثلما حدث مرة بعد ان ظهر في مقياس النيل ارتفاع بمقدار اصبع بعدما انخفض اصبعين فعادت المياه إلى مجاريها ونال الشعب لحظات قلق متبوعة بلحظات فرح لأمر ليس لهم يدٌ فيه.
خاير بگ نفسه كان يشرب الخمر ويعقد جلسات لذلك يحضرها كبار المماليك، كما يظهر ان المماليك يعقدون ايضا جلساتهم فالشيخ حسن بن مرعي شيخ العرب قتل بعد ان دعي للشرب ببيت اينال السيفي احد المماليك. لكنه يصبح تقياً عندما يقرر مقياس النيل ذلك أو عندما يقرر هو أن ينظر لمقياس النيل.
في عام ٩٢٦ هجرية ١٥٢٠ ميلادية برمضان كان الرعب قد حل بين المصريين وحكامهم على حد سواء عندما انخفض النيل ١٤ اصبعا، والمقياس كان لعنة في تلك الظروف فكانت الاسعار تتجه الى الغلاء مباشرة بعد معرفة الناس بانخفاض منسوب النيل. فكان رد الفعل بأن نزل خاير بگ الى المقياس وانهى الجميع عدة ختمات وقرأوا صحيح البخاري ووزعت الاموال على الفقهاء ثم على الايتام ثم صدر العفو عن ٨٠ سجينا واستمرت القرارات المختلفة من خاير بك حتى ارتفع النيل فعمت الفرحة بين الناس ثانية.
من الجدير بالانتباه أن المقياس لا يحتاج الى ذلك البناء المحيط به فيكفي أن يكون مكشوفاً وأن يراه الجميع وأن لا يكون فيه مكان يحتاج للجلوس والبقاء أو أن تكون له باب فيمكن لفئة معينة فتحها وغلقها واثارة قضية المقياس في وقت معين. لكن دور البناء هو حجب المقياس لتسييس الاستفادة منه من جهة ولقيام الحاكم بالحضور الى ذلك المكان وأداء الشعائر والطقوس لغرض استعراض دوره في رفع المقياس.
التلاعب بالرواتب والرسوم
تعطي الدولة الرواتب للجنود ولعدد من الوظائف الموجودة وتتقاضى رسوماً من الناس لقاء أمور مثل اجراء عقود الزواج أو عقود البيع والشراء. وكلا من هذين كانا يخضعان للتلاعب في ظل تلك الفترة.
في أحد الأعوام تم رفع رسوم عقود الزواج ومن الطريف أنها كانت تحدد بحسب عمر الفتاة وصنفها فكان هناك 60 نصف فضة على زواج البكر و30 نصف فضة على زواج الثيب. وكان التلاعب يجري أيضاً عبر إعادة النظر بالرواتب لمن يتقاضون ما يشبه التقاعد لخدمتهم السابقة أو حتى التلاعب بأملاك الناس. يوسف بن ابي الفرج كان شخص أسندت له وظيفة تؤهله أن يعيد النظر بوثائق الملكية الخاصة بأملاك الناس ورواتبهم ثم يلغيها كليا او جزئيا ويسلب من جزءاً من حقوقهم بعد الاحالة الى القاضي الحنفي.
أما الرواتب فقد كانت جميع وسائل التلاعب تحدث بها أولها التأخير حيث تعطى الرواتب بعد مرور عدة أشهر، أو القطع التام لعدة أشهر دون تعويض أو بتعويض جزئي بمادة أخرى مثل تقديم نصف المبلغ المطلوب بعلف الحيوانات كما حدث مع رواتب المماليك في عام 928 هجرية بعد قطع للرواتب دام 6 أشهر وكذلك مع القطع التام لرواتب الانكشارية لمدة 3 أشهر. وكان الانكشارية أكثر شراً وتجاوزاً على الجميع وكانت لهم سلطة استثنائية لذا كانت قطوعات الرواتب عليهم أقل من المماليك.
في العام ذاته أعفى خاير بك تسعة أعشار المماليك وأولاد الناس (فئة من أبناء المماليك كانوا يستلمون رواتب تشبه تقاعد الآباء) وأبقى العشر الأكثر شباباً منهم. وكان هؤلاء أشبه بصنف عسكري.
التلاعب بالأوزان وأسعار الصرف
قد يبدو سعر الصرف أمراً حديثاً وغير ممكن في الماضي، لكنه لم يكن كذلك. كان للدولة العثمانية بشكل عام أن تتلاعب بالعملة وكذلك يمكن للولاة ان يقوموا بهذا الأمر. أول إستراتيجية لذلك هي التلاعب باسعار تصريف الفضة مقابل الذهب. حيث يتم فرض سعر معين للذهب ويجبر الجميع على اعتماده.
أما الإستراتيجية الثانية فهي التلاعب بالسكة عبر سك النقود واصدار عملات فضية اخف وزناً وفرضها، رفض التداول بالعملة الجديدة ورفض تبديل العملة كان له عقوبات قد تصل الى اعدام من يرفض بباب محله وقد حدثت حالات مشابهة.
الاستراتيجية الثالثة هي التحكم بالاوزان والاذرع وقد تم تغييرها الى العثمانية الاخف وزنا وسببت اضطرابات في السوق. حكم الاعدام هو جزاء كل من يخالف اي حكم اقتصادي من الدولة، والاعدام بباب المحل كان أيضاً مصير من يعارض التعامل بهذه الوحدات الجديدة.
يبدو ممكناً أن الدولة العثمانية تغير الوحدات لمصلحة منتجات معينة تباع من الاناضول لمصر مثلاً أو أن تغير وحدة أخرى لصالح منتوج تستورده من الأقاليم فتحقق بذلك المزيد من الأرباح.
عقوبات قاسية
في احدى المرات جيء بثلاثة أشخاص متهمين بالسرقة لخاير بك فأمر مباشرة بشنقهم دون تردد ودون قبول لأي تشفع. شنق الثلاثة من أجل من اجل سرقة كيس من الخيار. كما تمت خوزقة فلاح مصري لأنه سرق ثوراً. والخازوق هو أشنع طريقة قتل متوفرة في وقتها ولعلها احدى الطرق الأشنع في القتل لدى البشر بشكل عام.
تحدث أيضاً العقوبات على المسؤولين بحق أو دون حق مثل التجني على الشهابي احمد بن الجيعان الذي كان مسؤولاً عن صرف الرواتب. وقد اتهم بسرقة رواتب الجنود وتم تعذيبه ثلاثة مرات بالضرب المبرح حتى تكسيره وجعله غير قادراً على النهوض. ثم تم اجباره على بيع كافة املاكه لتعويض الخسارة هو وشخص اخر ومن ثم ضربه مرة اخرى بعدها، في ذلك الشهر نفسه تم صرف نصف راتب للجنود بمختلف أصنافهم. من الواضح أن حادثة تعذيب المسؤول ونهبه كانت تغطية لنقص في الرواتب وكانت في الوقت نفسه فرصة لنهب أموال مسؤول قديم.
حكم خاير بك بضعة سنوات وكان داهية وموسوعة لسياسات التلاعب بعقول الناس وبالسوق للتغطية على الضعف الاقتصادي والمحافظة على الاستقرار في نفس الوقت. أمر يفعله حكام مصر دائماً وحتى يومنا هذا. والمشترك أيضاً مع هؤلاء الحكام هو الثروة الكبيرة التي يخلفونها وسط كل ذلك التقشف والتلاعب الذي يقومون به. مات خاير بك وانتهى حكمه ووجدت لديه كنوز هائلة لم تسعفه في الشفاء من المرض الذي تسبب بوفاته.
تعليق واحد على “خاير بك والتلاعب النفسي-الاقتصادي اثناء الأزمة الاقتصادية”
جميل جداً