كان ردي هو الضحك على شخص قرأ تعليق لي في تويتر ورد برسالة خاصة شاتماً إياي، وكان بضعة أشخاص آخرين قد ردوا مباشرة على التعليق الذي لم يكن سوى رد على شخص يسأل حول مصطلح أفضل من “عطلة نهاية الأسبوع”، فقلت أن العربية فقيرة بمصطلحات تنظيم العمل بشكل عام وأن مفهوم عطلة نهاية الأسبوع حديث (عرفت مؤخراً أن شركة أمريكية ابتدعته قبل مئة عام) فليس مطلوباً من اللغة العربية أن تدركه بمفردة واحدة. فهل أهنت العربية؟ وهل يجب أن عظمة اللغة العربية هي جزء من متطلبات الحياة اليومية لأفراد يجهلون الكتابة بها بشكل صحيح؟
أغاثني الأستاذ سبينسر كيلي من جامعة كولغيت (Colgate University) في محاضراته عن اللغة والعقل حيث قال: “ليس هناك شخص يحتوي اللغة بأكملها، لو أراد طفلٌ من الشعوب البدائية التي لا تمتلك الكتابة والقراءة أن يتعلم اللغة فلن يستطيع أن ينسخها من شخص واحد وأن يحتفظ بها بل سيتعلمها من المجموعة، اللغة هي خصيصة ناشئة من الجماعة”، ليساند بشكلٍ ما دأبي على القول بأن المفهوم الحقيقي للغة هو كونها شريحة في الزمان والمكان والمجموعة من الأفراد وعدا ذلك ستكون اللغة إصداراً آخر، لو ابتعد قليلاً في الزمان او المكان وانعزلت المجموعة لأصبح لهجة ولو ابتعد أكثر لصار لغة أخرى. لكن اللغة العربية بإصدارها المعظم هي لغة معجمية وهي كرة ثلج هائلة تجمع كل ما نطق به عربيٌ يوماً لا بل وتبتلع كرة الثلج تلك ما نطق به الساميون أيضاً خصوصاً وأن الحدود تتماهى ومفهوم العرب بشكله الحالي يتلاشى كلما عدنا بالتاريخ إلى الوراء.
لكن هذا شتيمة أيضاً، يجب أن تكون العربية لدى هؤلاء اللغة التي تتضمن 24 تسمية للأوقات (وكأن الـ 24 ساعة هي مفهوم قديم حقاً حتى تشمله اللغة العربية)، ويجب أن يكون للعربية 300 اسم للأسد، أتسائل إن كان هناك عربيٌ في عصرٍ ما يحفظ 300 للأسد لأنه يحتاج أن يستخدمها، هل سيقول مثلاً: “كلا هذا عرندس وليس غضنفر”؟ وهكذا فإن قاموس أي إنسان لن يتعدى بضعة مئات أو آلاف وقاموس أي مجتمع لن يتعدى بضعة آلاف أيضاً ولن تكون كافية لتُثقل بـ 300 اسم للأسد. هذه ليست شتيمة ولا إهانة للعربي الذي يتفاخر بذلك وهو لا يحفظ من تلك الاسم سوى اثنين.
مثل ذلك آلهة كثيرة وأصنام للعظمة التراثية التي يمكن أن تخرق السلام وتنتقل الى الشتائم إذا ما مسها أحد (أليست الأخلاق في الكلام أكثر أهمية للفرد من عظمة اللغة الفصحى التي لا يتكلم بها جيداً؟)، أحياناً أدوس على بعض هذه الأصنام دون أن أشعر فأنال شتيمة من هنا أو هناك، لكن بالتأكيد ليست الأصنام السياسية هي ما اخطأه. كجزء من متطلبات العظمة أيضاً يجب على الفرد أن يعتد بتاريخ من دول عظمى تشع نوراً وعدلاً وعلماً وبهاءاً وتمتد من الصين الى المحيط الأطلسي، بل والأدهى أن يعتد ذلك الفرد بعدة نسخ من هذه الدولة وآخرها العثمانية. والشتيمة هنا ستأتي لو شككت بأي من أركان تلك الأسطورة. هل تقول أن الدولة العباسية بخارطتها الشاسعة تلك لم تدم سوى عقدين أو ثلاث ثم تفككت؟ هل تجرؤ أن تقول أن سياسة الجباية لم تكن عادلة في جميع تلك الدول وأنها كانت تحلب الفقراء في الأصقاع لتشتري الجواري للسلاطين والخلفاء في المركز؟ هل تجرؤ على ذكر أسماء الدول التي تشظت اليها الدولة العباسية في القرن الثاني لها؟ هل تجرؤ على نعت العثمانيين بالظلم والتخريب؟ نعم، التشكيك بتلك الأصنام يجلب الكثير من المشاكل، وربما أكثر من المشاكل المتعلقة باللغة.
لا أستطيع أن أحصي مسببات الخلاف من هذا النوع، القضايا التي لا تمثل حتى جوهر الدين أو النسب أو التقاليد التي اعتدنا أنها من المحرمات، بل هي فقط متطلبات للعظمة التاريخية للأمة التي ينتمي اليها المعترض والتي قد تحمل مفهوم البلد الحالي فقط كما في بعض المصريين والعراقيين. أيضاً وكما وجدت من يعترض لأنني قلت أن مفهوم عطلة نهاية الأسبوع لم يكن موجوداً في العربية فإن هناك من ينزعج من القول بعدم وجود آلة موسيقية أو مفردة في فن العمارة أو الملابس او الطعام ضمن أمته العظيمة التي بلا شك علمت العالم كل شيء اللهم في بعض الاستثناءات مثل المرحاض الذي استوردته قبل أقل من 100 عام غربياً وشرقياً وفي بعض الأحيان ما زالت لا تجيد استخدامه.
بالمقابل فهناك أمم وبلاد كثيرة منها وكثير منها متقدم أكثر من الأمم التي ترى نفسها عظيمة، ليس لديهم هذا المفهوم وليس لديهم ما يعظمونه والأمور على ما يرام. معظم الشعوب الأوروبية لا تستطيع النظر لأكثر من بضعة مئات من السنوات الى الوراء، وبعضها لا تستطيع النظر لأكثر من مئتين، فاستيطان شمالي القارة من قبل السلت ثم الجرمان بحد ذاته حديث نسبياً. انظر الى ماليزيا واندونيسيا، والأولى أفضل حالاً بكافة المعايير من معظم الدول العربية، هل لديهم لغة عظيمة أم فتوحات أم خارطة شاسعة؟ لا أظن داء الأمة العظيمة ينتشر بين هؤلاء ويجعلهم يرمون الشتائم لأن عظمة الأمة أو اللغة قد تم الانتقاص منها.
كان هذا سرد سريع لداء الأمة العظيمة، وأعراض عامة لتشخيصه، لكن قد أحتاج الى المزيد من الملاحظة لأشخص طبيعة المصابين به والمرشحين للعدوى، فحتى الآن صادفت أشخاصاً من مختلف الأعمار، ومن خلفيات تعليمية متباينة مصابون بهذه الأعراض.