لطالما عرفت النموذج الطبيعي في مسودات كثيرة محاولاً شرحه نظرياً لكنني كثيراً ما كنت أتشعب بالشرح حتى ابتعد عن التعريف، والسبب في ذلك هو رغبتي باثبات اركان هذا المفهوم الذي افترضه في استخدام التاريخ الحديث بشرح الحاضر وفهمه. لكن هذه المرة سأحاول البدء بأكثر بلد اطلعت على تاريخه الحديث لأعرف ملامح النموذج الطبيعي له.
النموذج الطبيعي للنفوذ أو النموذج الطبيعي في السياسة هو نموذج يتمثل بمجموعة من الملامح في السلطة وطبيعة التجمعات البشرية وتوزيع القوة في إقليم معين بالاستناد إلى ما كان البلد عليه قبل وصول الحياة الحديثة إليه والتي سببت تخلخلاً يتباين من إقليم لآخر.
من أركان النموذج الطبيعي هي:
- الدور العالمي للاقليم
- طبيعة الحكومة
- طبيعة التجمعات في المجتمع (قبيلة، شعوب مدن، قرى).
- طبيعة الأنشطة الاقتصادية.
- أقطاب القوة في الإقليم وتوزيع القوة بينها.
النموذج الطبيعي في العراق
كان دور العراق عالمياً خلال القرون الأخيرة هو بكونه طريق فقط، لم يكن مرفداً لليد العاملة أو المنتجات الزراعية أو الصناعية الا قليلا، وكان بالكاد قادراً على توفير ما يكفي من الطعام لسكانه ليس بوفرة مضمونة دائماً. وبالمقابل تتوفر مياه الشرب لسكان العراق من خلال النهرين. ثم انخفض تدريجياً دور العراق كطريق عبر مراحل عدة منها الانفصال الجيوسياسي عن ايران بعد طرد الصفويين على ايدي العثمانيين، اكتشاف رأس الرجاء الصالح وتحول طرق التجارة نحو الجنوب، شيوع السلب في جنوب العراق على أيدي العشائر، وأخيراً افتتاح قناة السويس. بذلك انخفض دور العراق كطريق سواء من ايران نحو الغرب، أو من البصرة شمالاً نحو الاناضول والشام. لكنه لم يزل طريقاً محتملاً لاسيما لما يأتي من الهند. وبسبب أن دور العراق العالمي هو بكونه طريق، فإن قطع هذا الطريق أو جباية الضرائب منه كانت النشاط الاقتصادي الأبرز للعشائر والحكومة على حد سواء.
ينقسم العراق إلى أربعة مناطق تتباين في متغيراتها بشكل نسبي: كردستان، الموصل، الوسط والجنوب. تشمل كردستان الجبال التي يعيش فيها الأكراد، اما الموصل فتشمل المدينة ومحيط ضيق حولها، والوسط هو الأقليم الأكبر ويمتد من الحلة الى جنوب الموصل ومن الحدود الإيرانية الى مناطق الفرات في عانة وما حولها. يخضع الوسط للسلطة المباشرة لبغداد ويوفر أكبر نسبة من المحاصيل الزراعية وهو الإقليم الأقوى والأقدر على فرض نفوذه على بقية الأقاليم. أما الجنوب وكردستان فهم الأصعب من حيث فرض النفوذ والأكثر اثارة للمشاكل، في حين أن الموصل تكاد تكون مدينة مستقلة لولا ضعف مؤهلاتها لفرض كلمتها في إقليم خاص منفصل. طيلة القرون الخمس الأخيرة يكاد هذا النموذج أن يطغى على الأوضاع الجيوسياسية.
يدعم الجنوب مركزاً للنفوذ العشائري قرب الناصرية الحالية يعد الأقوى عسكرياً، ويدعم أيضاً قطباً دينياً يمتد بين الحلة والنجف. أما الموصل ففيها حكومة محلية قوية، ولبغداد هيكلية من النفوذ يسيطر فيها الحاكم على التقسيمات الجغرافية المحيطة وتجعلها مؤهلة لتعيين الحكام هناك.
تواجه الحكومة تحديات عديدة منها الوقوف بوجه القوى المحلية كالعشائر في الجنوب وحالات التمرد الكردية، ومنها مواجهة القوى داخل بغداد كالعسكر والميليشيات والقوى المناطقية داخل المدينة. بالمقابل تواجه حكومة بغداد أيضاً تحديات أخرى من إيران التي ترغب بالاتصال بالغرب والبحر المتوسط عبر العراق، وتواجه تحدي القبائل العربية التي تمتلك فضاء مفتوح للحركة دون أي حدود واضحة بين شبه الجزيرة العربية والصحاري العراقية. على الحاكم أن يتحلى بالعديد من المهارات السياسية التقليدية في التعامل مع الاناضول وايران، والمهارات السياسية غير التقليدية في التعامل مع القوى المحلية، فضلاً عن الحاجة الدائمة والملحة لتجييش الحملات على اعمال التمرد وقطع الطرق المحلية. كنتيجة لذلك، فإن الحكومة العراقية كان يجب أن تكون حكومة عسكرية دائماً، أي أن الحاكم كان يجب أن يكون القائد المباشر للقوات المسلحة وأن يقوم بتجهيز الحملات بنفسه.
وجود جميع هذه الأعباء على الحاكم العراقي جعل ظهور حكام ناجحين في العراق أمراً محدوداً جداً لاسيما وأن الوظيفة تتطلب الكثير من المهارات، فالمتسامحين مع القوى المحلية كانوا يخسرون حياتهم مثل عدد كبير من الباشوات العثمانيين، والقساة المسيطرين محلياً كان يصعب أن يتحلوا بمهارات سياسية جيدة مثل بكر صوباشي (وحتى صدام حسين وان كنا لا نشمل الفترة المعاصرة بكلامنا). أما من حاولوا جمع الاثنين سوية فكانت العلاقات مع الخارجية سبباً آخر في الاجهاز عليهم مثلما انهى العثمانيون حكم داوود باشا ومدحت باشا وحاولوا انهاء سلطة الكثير من الولاة الناجحين.
محلياً ونظراً لكثرة التحديات الأمنية التي تلامس حياة الناس اليومية، يؤمن الناس أن الحاكم القاسي القادر على سحق الخصوم داخلياً هو الخيار الأمثل وهكذا فقد دأبوا على تمجيد أفعال قاسية قام بها بعض الولاة ولم تكن القسوة نقيصة أبداً، بل كان الحاكم الجيد بالنسبة لسكان المدن هو من يقتل الجميع بالتساوي. هناك حكومة قوية، وهي أقوى من جميع الأطراف لكنها في نفس الوقت غير قادرة على سحقهم وفرض كلمتها بالكامل.
في العراق نوعين من الناس، سكان المدن وهم أقل من نصف السكان يتركزون في بغداد ثم الموصل وبعدها اعداد قليلة في بقية المدن. أما النصف الآخر فيعيشون في البوادي والقرى بحياة زراعية أو حياة تمزج بين الزراعة في بعض المواسم والتنقل والرعي في مواسم أخرى، والرعي بشكل عام هو النشاط الاقتصادي الأبرز.
النموذج الطبيعي لمصر
تعد مصر سيدة لمحيط من الصحاري الضعيفة أو الأقاليم المفيدة الأقل قدرة منها مما جعلها في حماية كبيرة من مخاطر الغزاة الخارجيين، فمنذ الغزو الفاطمي لم تتعرض لأي جيش قادم من الغرب ومنذ دخول القائد العباسي بعد سقوط الاخشيديين لم يدخلها أي جيش من الشرق. ثم في العصر الحديث لدينا غزوة نابليون والتواجد الإنجليزي من البحر والاحتلال العثماني من الغرب. لكن مصر ليست ملعباً سهل الوصول اليه، حتى وصول المغول اليها وخوضهم معركة عين جالوت لم يكن نابعاً من خطة محكمة وجادة ولم يكن انتصار المصريين انتصاراً يحسب وكأنهم غلبوا المغول في أوج قوتهم وبأفضل جيوشهم.
يتميز نموذج مصر ثانياً بحكم الأجانب، فمنذ الفتح الإسلامي حتى حكم جمال عبد الناصر لم يحكم مصر سوى سلالات أجنبية. بل أبعد من ذلك اذا ما ذهبنا الى البطالمة والحكم الروماني والاحتلال الساساني المؤقت. نعم كانت معظم هذه السلالات تندمج وتتكلم اللغة السائدة لكنها كثيراً ما كانت تديم زخم نفوذها وقواتها بالمزيد من الأجانب، لم يكن الاعتماد على المصريين في القتال أمراً وارداً على الاطلاق لدى جميع هذه القوى.
وكنتيجة لحكم الأجانب لمصر، لطالما كان في مصر طبقة من النبلاء الأجانب، والتي بطبيعة الحال تكتسب اللغة وتذوب الى حدٍ ما في المجتمع لكنها تحتفظ بكونها فئة منفصلة عن المجتمع ولا تنتمي معه الى نفس الأصول، آخر تلك الطبقات كانت أولاد الناس في عهد المماليك والعهد العثماني وهم أبناء المماليك. يمتلك هؤلاء أيضاً المزارع الخصبة الغنية في صعيد مصر ويخرجون أيضاً طبقات أخرى من المقاتلين، فلم يكن أولاد الناس في العهد العثماني طبقة مرفهة فقط بل طبقة تنتج المقاتلين.
بالحديث عن المقاتلين، فلأسباب عدة كانت مصر محكومة دوماً من قبل العسكر، فالحاكم هو قائد الجيش وهو بحاجة الى تجييش الحملات باستمرار، وبالرغم من قوة مصر الواقعة في الدلتا، لم تزل تعاني من عمليات سلب ونهب من قبل العرب في الشرقية والغربية أو في سيناء وغزة وكان هذا يتطلب تحركات عسكرية بسيطة لا تقارن بمثيلتها في العراق. لكن في الوقت نفسه، فإن مصر لم تكن تلعب دوراً محلياً فحسب، بل تشارك الى حد ما في السياسة الإقليمية وتؤثر في نواح عدة، أولها أن مصر تدير الشام والحجاز واذا كان الحجاز أرضاً شبه منعدمة القيمة، فإن الشام أكثر عرضة للاعداء، إذ غزاها الصليبيون في الفترة الفاطمية وكانت التحركات التركية في شمال بلاد الشام هي الشرارة للحرب العثمانية المملوكية التي اسقطت المماليك.
وأيضاً كانت مصر نقطة مهمة لادارة الحرب العثمانية البرتغالية في البحار الجنوبية فمنها كانت تتحرك السفن المتجهة جنوباً والمتوجهة الى الخليج العربي وخليج عمان. كما أن ثروة مصر الزراعية التي تؤهلها للتصدير تجعلها طعماً لقوى أكثر أهمية، حيث كانت مصر أول بلد مسلم تقريباً يتعرض لغزو أوروبي لاسيما في فتح نابليون بنهاية القرن الثامن عشر. وأيضاً فإن لمصر ملحقات كالشام والحجاز تزيدان من قيمتها ولطالما تبعتا لسلطانها طيلة الألفيتين الماضيتين وليس القرون الخمس الأخيرة فحسب.
سكان مصر ينقسمون الى سكان القاهرة وما حولها من مدن بسيطة، وإلى الفلاحين القرويين في الصعيد، وأيضاً العرب في الشرقية والغربية ومنهم من يعيش حياة البداوة ومنهم من يعمل في الزراعة أيضاً. لكن بشكل عام فإن نسبة البدو الى سكان مصر قليلة فيما لو قورنت بالعراق.
ما يميز مصر أيضاً هو غزارة الإنتاج الزراعي وإمكانية تمويل جيوش كبيرة من وارداته بشكل دائم وعدم تذبذب ذلك بصورة كبيرة. يشير ابن اياس الى انخفاض تدريجي منذ عهد الفراعنة حتى مطلع العهد العثماني باستخدام أرقام بسيطة دونها المؤرخون، ولعل هناك تذبذب على مستوى مئات السنين لكن ليس هناك تذبذب سنوي كبير يسبب المجاعات. انتهى القرن التاسع عشر ودخلت الحضارة الحديثة وكانت مصر الفائز الثاني في اللعبة الجيوسياسية قديماً لاسيما بحيازتها على اعلى عدد سكان في المنطقة بعد تركيا (مركز الإمبراطورية) وبعدها جائت ايران. يشير هذا التعداد الكبير الى شيء واحد، كان هذا الاقليم هو ثاني أغنى إقليم في المنطقة بعد الاناضول.
تلعب مصر أيضاً دوراً في الطريق التجاري مع الهند نحو الشرق، إذ تكون السفن مخيرة بين وادي الرافدين وسلوك الطريق البري بعد ذلك أو الذهاب الى مصر، هذا ان لم تتجه عبر إيران عبر البر.
غالباً لا يحتاج حاكم مصر الى الجيش لأغراض القمع الداخلي بل يحتاجه للحروب الخارجية وأرضه تمكنه من ذلك. كما أن أمن الإقليم محفوظ جيداً من الصحاري من كافة نواحيها باستثناء من الشمال.
يميز إقليم مصر أيضاً أنها احد ابرز نقاط الوصول الى العمق الأفريقي لاسيما بتتبع نهر النيل جنوباً، وكان ذلك معبراً مهماً للعبيد طيلة القرون المختلفة ومصدراً للتخالط مع السكان الأفارقة بشكل لم يحدث بنفس الكثرة في تونس والجزائر حيث الانعزال عن الأفارقة. كانت مصر أيضاً من البلاد القليلة التي لعب السود فيها دوراً سياسياً داخلياً لاسيما باستعانة الفاطميين بهم وجلبهم على شكل ميليشيا مساندة وليس بشكل عبيد وخدم فحسب.
نظراً للظروف العديدة وطبيعة الأرض فإن المصريين أكثر ميلاً وخضوعاً للسلطة، قام المصريون بثورات عديدة في التاريخ، لكن في الوقت نفسه فهو ليسوا منظمين بشكل قبائل وتنظيمات شبه عسكرية قادرة على تهديد الدولة. هذا إن استثنينا قبائل العرب وهم قلة مقارنة بسكان المدن.