تغافلت أول مرة قرأت فيها كلمة قهوة بمعنى خمر عن الأمر، لكن انتبهت بشدة أمام بيت شعر آخر يذكر ذلك بوضوح. كلمة قهوة طيلة تاريخها كانت ترمز للخمر ولم ترمز لشراب البن المغلي حتى آخر 500 سنة أو أقل من ذلك. تنقسم الكتب التي تذكر القهوة الى ثلاثة أقسام، أولهما الكتب القديمة التي تذكر القهوة بمعنى خمر وسنأتي على ذكر أمثلة كثيرة منها. ثم هناك الأدب وكتب الفقه التي تتكلم عن القهوة التي نعرفها اليوم وهذه كثيرة أيضاً لا حاجة لذكرها. وبين هؤلاء، هناك من اشتبه وخلط هذا مع هذا، فهناك فقهاء في القرون الأخيرة حرموا القهوة وهناك من رد عليهم كما أن هناك من المحدثين من اشتبه عليه الأمر فتسائل عن تحريم الفقهاء الأقدمين للقهوة وما حرموها سوى لأنها كانت تعني في زمنهم الخمر.
أول الأمثلة من كتاب القيرواني قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور لأبن المعتز:
قم فاسقني قهوة عروس دساكير عليها طوق من الذهب
وصب في الكأس من أبارقنا … ماءين من فضة ومن ذهب
في مجلس غاب عنه عاذبه … نطرد عنه الهموم بالطرب
كم من عناق لنا ومن قبل … مختلسات حذار مرتقب
ولإبن المعتز أيضاً:
قم يا غلام فهاتها مشمولة … ذهبية تنفي الهموم فتذهب
وأدر علينا في الزجاجة قهوة … حمراء شمس شعاعها لا تغرب
فأدر بها لين الزمان فإنه … زمن على أبنائه يتقلب
ومن الواضح أنه يشير هنا للنبيذ الأحمر.
وله أيضاً:
وهاكها قهوة صهباء صافية … منسوبة لقرى هيت، وعانات
ويشير هنا الى عانة وهيت وقد كانتا معروفتان بصناعة الخمر وبوجود بعض الحانات ويشير هنا الى الصهباء وهي نوع من النبيذ المعصور من عنب ابيض كما ورد في معجم اللغة العربية المعاصرة.
وإن كان ذلك غير واضح سوى من ذكر الكؤوس فيقول شاعر:
إشرب فإن الزمان غض … وصرفه لين الجناب
من قهوة مزة كميت … تذكرني غرة الشباب
ولا أوضح من قول صريع الغواني:
حمراء إن برزت، صفراء إت مزجت … كأن فيها شرار النار تلتهب
وقهوة من بنات الكرم قلدها … طوقا من الدر في كاساتها الحبب
حيث يشير الى الكؤوس والى صناعتها من الكرم، ويذكر أن منها لونين حمراء وصفراء في الإشارة الى لوني النبيذ المتوفرين في عهده.
ويقول ابو نؤاس:
أسقني يا ابن أذين … من شراب الزرجون
أسقني حتى ترى بي … جنة غير جنون
قهوة عمي عنها … ناظرا ريب المنون
عتقت في الدن حتى … هي في رقة ديني
ثم شجت فأدارت … فوقها مثل العيون
ويقول ابن وكيع التنيسي البغدادي الأصل التنيسي المصري النشأة (ت 393هـ):
أسقني من قهوة مشمولة … تخلص النفس بها من همها
لا تذقها الماء في كاساتها … حسبها ما شربت في كرمها
ويذكر الحسين بن الضحاك (ت. 169 هـ) القهوة وصفاً للمدام:
هاجني للصبوح نقر النواقيس ونجوى حمامة وحمام
فاصبحاني قبل الصباح مداما … قهوة مرة بماء غمام
وقال البحتري ت 280هـ:
إشرب على زهر الرياض يشوبه … زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قهوة تنسي الهموم وتبعث الشوق الذي قد ضل في الأحشاء
وقال ابن الرومي ت 283هـ
طربت إلى ريحانة الأنف والقلب … وأعمالها بين العوازف والشرب
فلا عيش إلا بين أكواب قهوة … توارثها عقب من الفرس عن عقب
تأنت أكف القاطفين قطافها فسالت بلا عصر ودرت بلا عصب
ونقرأ في موشحة موشحة ابن سهل الإشبيلي الأندلسي (توفي 649 هـ):
قهوة بكر عجوز عتقت … زمنا في دنها من قبل نوح
هي لما في زجاج أشرقت … شمس راح غربت في كل روح
جددت بسطا وكم قد مزقت … قلب صب في غبوق وصبوح
حلف الخمار عنها قسما … أنها بالمكث كادت تنتسي
فاسقني صرفا ولا تمزج بما … راحه كم أذهبت من عبس
فنرى بذلك أن مساحة هذه تسمية القهوة للخمر تمتد من بغداد حتى الاندلس ومن العصر الأموي حتى 7 قرون بعد الأسلام. ومن الطريف أن صاحب احد الكتب الدينية التوعوية الحديثة يستنكر ذلك على أنه تسمية للخمر بغير إسمه والصحيح أننا اليوم نسمي القهوة باسم لم يكن إسمها بل كان محجوزاً لفترة طويلة للخمر.
ومن الحقبة ذاتها في دمشق يقول الشيخ أبو المعالي، محمد بن سوار بن إسرائيل الدمشقي المتوفي عام 637هـ:
ومعشق غنج اللواحظ قد غدا … في خده الآس النضير مجعدا
لو لم تكن عيناه كأسي قهوة … ما كان صفو بياضها متوردا