ما سأناقشه هنا هو فرضية لطالما فكرت بها حول دور المناخ في صياغة المهارات في أي مجتمع شرط التعرض لفترة كافية لمناخ معين وشرط وقوع المناخ ضمن تصنيفات المناخ المؤثرة من هذه الناحية.
بداية تصنف المناخات بشكل عام الى مناخات معتدلة ومنها المناخ المحيطي والقاري (ليس جميعه بل فقط Dfb) والمتوسطي، والمناخات الجافة وتشمل تصنيفات باردة تنتمي الى المناخ القاري وتشمل ما يمكن الاطلاع عليه في وسط آسيا، أو المناخات الجافة وشبه الجافة الحارة والتي تشمل معظم المنطقة الممتدة من باكستان حتى المغرب ومن جنوبي تركيا حتى اليمن والتي يغلب عليها المناخ الجاف لكن مع بعض الجيوب للمناخ شبه الجاف او المتوسطي.
تنتمي التصنيفات التي نذكرها هنا الى تصنيف كوبن-غيغر للمناخ وهو التصنيف الأكثر شهرة وهو قائم بشكل أساسي على واقع النبات الطبيعي بحيث يمكن تخمين المناخ من خلال النبات والعكس. وبطبيعة الحال فإن هذه المناخات تضع حدوداً فاصلة حول طبيعة الغذاء المتوفر في المناطق من حيث النبات وما يتبعه من حيوانات تصلح للصيد او يمكن رعيها، كما تحدد هذه المناخات توافر الأخشاب كمواد للبناء أم عدم توافرها. وبالتأكيد، فإن المناخات هذه تعكس مستوى الراحة النسبية فيما لو أراد البشر العيش دون امتلاك أي حماية من المناخ بل وإمكانية ام عدم إمكانية العيش من الأساس. وتعكس المناخات أيضاً الحاجة لبناء المنازل وطبيعة تلك الحاجة.
المناخات الباردة تفرض فترة يكاد يتقيد فيها العمل كلياً لاسيما في فترات الثلوج، ثم تعقبها فترة مناسبة للزراعة أو الرعي، وبذلك، فإن المناخ البارد يمكن أن ينتخب مجموعة من العادات التي ترجح تخزين الطعام للشتاء، والقدرة على العمل الزراعي في الصيف والربيع، والقدرة على حفظ الطعام. تنتخب تلك المناطق بالدرجة الأساس عادات العمل المنظمة وفق منهج محدد طيلة العام، وتقضي ببساطة على من لا يلتزم بذلك أي من لا يحتفظ بالطعام الكافي له. بطبيعة الحال، فإن البشر تمكنوا من بعض تقنيات الخزن ومن التجارة ومن بعض الأنشطة الزراعية الشتوية لكن هذا لا يغير من حقيقة أن منهج العمل بين الشتاء والصيف يختلفان كلياً وأن الصيف يوفر ميزة لحفظ الطعام.
المناخ هو المحدد الأول لوفرة الموارد أو شحتها طيلة التاريخ اذا ما استثنينا النفط والذهب وغيرها من المعادن التي رغم أنها أحدثت فارق شديد السرعة في تغير مستوى المعيشة غير أنها أثبتت أيضاً عدم احداثها فارقاً على المدى البعيد. وفرة الموارد وشحتها تحدد جودة التغذية او سوء التغذية او على الأقل نمط التغذية، وهذا بدوره يعد مؤثراً تخلقياً (فوق-جيني) مثبت علمياً.
في الصحاري والمناطق الجافة الحارة طيلة العام قد لا يعني العمل الدؤوب الكثير، يمكن الركض نحو فريسة لصيدها اذا ظهرت ويمكن ممارسة الرعي بشكل ثابت طيلة العام، كما يمكن السعي نحو سلب قوم ما او الدفاع عن القبيلة اذا ما تعرضت لهجوم في تلك المناطق التي ستميل أكثر للهجمات على الاقوام المجاورة للحصول على الموارد وتقليل المنافسين في ظل انخفاض الموارد بشكل عام.
أيضاً فإن البناء لا ينفع كثيراً في صد الحر فحتى ظهرت تقنيات التبريد لم يكن هناك وسيلة لاتقاء الحر عبر البناء، وإن وجدت فقد كانت تتطلب الكثير من الموارد مثل البيوت التقليدية التي صارت تبنى في القرن التاسع عشر في الخليج العربي أو الجدران شديدة السمك في الأبنية العباسية في العراق، وهذه الأصناف من الأبنية بلا شك ليست سوى استثناء حديث باهض الثمن لا يتمتع به معظم السكان. إذاً فإن المناخ وطيلة التاريخ يستدعي حدوث تغيرات في نمط البناء ومدى تعقيد وصعوبة البناء، وذلك عبر تأثيره على الراحة وعبر تأثيره على وفرة الموارد كالأشجار.
قد ننتبه أحيانا على فروقات بين أنظمة العمل بالعمل اليومي او العمل وفق مواسم الحصاد او العمل بوقت معين من اليوم وأيضا على العمل ضمن جماعات او افراد. يفترض أن يكون هناك اختلاف في القيم التي ترتبط بالعمل بين المناطق المناخية المختلفة فيما لو كان هناك تأثير للمناخ على مهاراتنا وقدراتنا في العمل. ومثل أوقات وأنظمة العمل فإن طبيعة المهارات المطلوبة تتأثر بحسب الحاجة لها.
مناقشة
يتطلب اثبات هذا الأمر زيارة العديد من المجالات واعداد أبحاث كثيرة منها: التحليل اللغوي لمصطلحات العمل والعمل المشترك. لطالما لاحظت ضعف اللغة العربية الشديد في هذا المجال فمثلا مصطلحات إجازة وعطلة ودوام جزئي وكلي كلها جديدة. بالمقابل هل لها نظير أقدم في الإنجليزية والألمانية؟ كما ان الفارسية والبلوشية والاردو يجب أن تخضع للنظام ذاته مثل العربية. فهل هذا صحيح؟
يمكن أيضاً ان نجري مقارنة عبر التاريخ لنأخذ فيها أنظمة البناء التقليدية للشعوب بالمقارنة مع الموارد الخشبية المجاورة لهم وبالمقارنة مع شدة الحر والبرد. نزعم هنا ان المناطق الاستوائية والمناطق الصحراوية الحارة طيلة العام ستكون بحاجة أقل الى الأبنية الأكثر تعقيداً، بينما تكون المناطق ذات الأشجار الكبيرة والتي يسودها شتاء بارد جداً مع صيف معتدل بحاجة الى ابنية اكثر تعقيداً وتكون أيضاً قادرة على انتاج ابنية كهذه. فهل يمكن اثبات ذلك؟
بالطبع الدليل الأول والأهم يأتي من تحليل ساعات العمل في البلاد المختلفة وتحليل أمور تتعلق بالانتاجية، لكن هذا من الصعب الحصول عليه. كما أن وجود تجارب متباينة بين الدول تكون محفوفة بالكثير من التغيرات البيئية والثقافية ومن الصعب ايضاً القيام بعمل بحثي يخضع فيه اشخاص من عدة قوميات وثقافات لتجارب حول العمل. التحدي الآخر لإثبات قوة المناخ هو بإيجاد علاقة الحرارة والرطوبة بشكل مستمر على الجينات أو على نحو جيل الى عدة أجيال على المؤثرات التخلقية (epigenetics). أيضاً، باختصار قد يعني اختلاف المناخ والموارد تأقلم الانسان سريعاً لمعايير جديدة – ما يدعى اليوم بالثقافة – وتوجهه لأنشطة جديدة. اما المهارات المتقدمة التي تتم غربلتها في الأراضي قليلة الموارد فمن الممكن أن تكون هناك العديد من الأسباب لاعادة توزيعها سريعاً بطرق اكثر ديناميكية من الطرق البيولوجية وحتى الثقافية. ينتقل البشر ببساطة الى مناطق الثروات بسرعة ويبدؤون بالتكاثر هناك.
حين نأخذ الاحتمال الثالث والقائم على تنقل البشر فإننا تلقائياً نقر بتغير التركيبة الجينية لمجتمع ما بناءاً على حدوث تغير في وفرة موارده. ليس عبر الانتقاء أو التأقلم بل عبر قدوم المزيد من البشر. هذا الجانب من الممكن اثباته بسهولة عبر العصور في الكثير من الشعوب وللكثير من المناطق سواء عبر الغزوات او الهجرات من أجل العمالة الماهرة (والتي كانت موجودة في الماضي كما هي اليوم لكن دون مخطط حكومي) او حتى الهجرات القسرية من أجل العمل والتي تعرف بالعبودية. وبالنسبة للأراضي التي تنتقل الى المناخ الأفقر، فإن ذات السبب، وهو انتقال البشر بعيداً عنها يعني أيضاً تغيراً جينياً ليس عبر الطفرات والتأقلم بل عبر انزياح الحاملين لصفات معينة بعيداً. ويبقى مع ذلك الباب مفتوحاً امام اثبات الطرق الأخرى لانتقاء الصفات والتي تحدث مباشرة على الجينات وبفعل الحرارة والرطوبة وجودة أو سوء التغذية.