في سلسلة قراءاتي في كتاب السجل الروسي الأول، جذب انتباهي ملف تحول السلافيين الشرقيين الى المسيحية بينما كانوا تحت حكم اسرة روريك ذات الأصل الفارنغي (الفايكنج) والتي تحولت الى اسرة سلافية حاكمة. يمر الموضوع بالكثير من الكر والفر والسياسات الغريبة التي ربما كان القصد منها رسم الطريق والتمهيد قبل التحول.
قصص التحول لدى السلافيين الذين ورد ذكر تحولهم في الكتاب وهم البلغار والشعوب السلافية في أوكرانيا وروسيا الحاليتين والمورافيين، كانت قصصاً هادئة نسبياً بالمقارنة مع القرن المليء بالنزاعات والإجبار على التحول الديني لدى المجريين الذين شرع ملكهم بتحويلهم في فترة مقاربة لفترة تحول الروس.
والبعد المهم الآخر في تحول الروس والبلغار الى المسيحية يتعلق بعلاقتهم مع القسطنطينية.
البلغار والقسطنطينية والتحول للمسيحية
في العام 853 ميلادية يذكر المؤرخ تحول البلغار الى المسيحية بدعم من الامبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث. من المعروف حينها ورغم أن السلافيين الجنوبيين في بلغاريا كانوا تحت حكم البلغار العائدين لأصول تركية، غير أن سكان المنطقة والشعب المحكوم كان يغلب عليه أن يكون سلافياً. خانات البلغار كانوا قد اكتسبوا الأسماء السلافية في ذلك الحين واللغة قبل ثلاثة إلى أربعة أجيال متنصلين عن الثقافة التركية الأصل. يعود الكاتب ليؤكد في تاريخ 869 أن جميع البلغار قد تحولوا الى المسيحية.
تحول البلغار للمسيحية يبدو أنه لم يساعد كثيراً في تحقيق صفاء سياسي وعسكري طويل الأمد، فبعد عقود رسخ البلغار المزيد من الاستقلالية الدينية عبر الاستغناء عن اليونانية وتحويل الطقوس الى لغتهم. فرد اليونانيون بعقوبات اقتصادية تمثلت بضرائب ثقيلة على التجار البلغار، ومن ثم بتحريض المجريين غير المسيحيين الذين استوطنوا المنطقة حديثاً في شمال بلغاريا ومساعدتهم في حملة عسكرية ضد البلغار والتي بدأت ببعض النتائج لصالح اليونانيين لكنها انتهت بهزيمة جيشهم في معركة بلغارفيغون (Battle of Boulgarophygon).
عاد سيمون الأول بعدها ليغزو أراضي اليونان مرة أخرى وليحتل ادريانوبول في العام 914 ومرة أخرى تحالف البيزنطيين مع قوم من غير المسيحيين ضد البلغار لكن تحالفهم مع التشود فشل [أي من هذه التفاصيل لم يرد في الكتاب وورد ذكر المعركة بين البلغار واليونان فحسب والسنة].
ثم نجد تتعرض القسطنطية من جيرانها الغربيين الى الهجوم مرة أخرى وعلى أيدي سيمون البلغاري مرة أخرى في الأعوام 921-929، ومن ثم على أيدي المجريين 930-934. وعلى الأغلب نال هذا الهجوم من البلغار أيضاً حيث يفترض أنه لا توجد حدود مباشرة بين المجريين والقسطنطينية.
الروس في عصر قوتهم
الروس من الطرف الآخر أيضاً لم يكونوا بذلك الخنوع والرغبة للتحول لدين بيزنطة في القرن التاسع ومعظم القرن العاشر، ومن غير الواضح أيضاً أن تلك الحقبة وهي بداية تدوين الكتاب هي حقبة تحول فيها الروس الى الثقافة السلافية أم لا، لكن على الأرجح كانوا ما يزالون محتفظين بثقافتهم الاسكندنافية. أجهز اسكولد (Haskuldr) ودير (Djur) اللذان كانا يحكمان كييف على اسطول بيزنطي وقاموا بمجزرة باليونانيين (البيزنطيين – الكتاب يسميهم اليونانيين) في السنوات بين 863 و866.
في العام 907 غزا أوليغ القسطنطينية بجيش كبير من الفايكنج، السلاف، التشود، الكريفيتشيين، الميرانيين، السيفيريين، الدريفيليين، البوليانيين، الرادميشيين، الكروات، الدوليبيين، التريفيكيين (معظم هذه الشعوب هي أصلاً سلافية لكن المؤرخ يذكر السلاف وأسماء الشعوب) وسمي الجيش بجيش سكيثيا (Scythia) العظيم، ويذكر المؤرخ أنهم قاموا بتنفيذ مجزرة بالسكان هناك وفي النهاية دفع لهم الامبراطور (ليو) الجزية ووقع معاهدة معهم. وبالرجوع الى المصادر العامة فإن السبب وراء الحملة كان بسبب رفع الضرائب ضد التجار القادمين من تلك المناطق.
في العقد الأخير من القرن، أي في السنوات بين 888 و898 تحول المورافيون إلى المسيحية أيضاً وطلبوا من القيصر البيزنطي ميخائيل تعاليماً تترجم للغتهم. ويبدو أن المؤرخ قد أخطأ فيمن كان القيصر حينها حيث لم يكن ميخائيل يحكم في ذلك الحين. ثم هجم الروس بقيادة ايغور في العام 941 بآلاف السفن على القسطنطينية وهجموا على مدينتين أخريين أيضاً.
النصر لم يكن حليف السلافيين دوماً، فهجوم الروس في العام 971 فشل كما فشلوا في صدامهم الاولي مع البلغار حيث حوصروا من قبل البلغار. وفي النهاية دفعوا الجزية للقسطنطينية لاسيما بعد نجاتهم من حصار البلغار واكمال حملتهم نحو القسطنطينية.
نزعة فلاديمير العظيم لتغيير ديانة الروس
اهتمامات فلاديمير الدينية بدأت بالتجلي في نهاية القرن العاشر. ففي سنة 986 بدا غريباً حين زار فلاديمير امارة البلغار المسلمين في وسط روسيا الحالية (تختلف عن خانية او دولة البلغار لاحقاً في البلقان). ولم تكن زيارته تلك بنية الغزو بل كانت زيارة ودية. وقد خاض حواراً مع المسلمين حول دينهم الذي أبدى بعض الاهتمام به لكنه نفى ذلك الاهتمام حين سمع بتحريم الخمر. من الجدير بالاهتمام أيضاً ان قصة السبعين حورية كانت قد وصلت الى هناك في اصدار الإسلام البدائي الذي كان متداولاً، لكن القصة قد تحورت لتوجب على الشخص أن يختار امرأة واحدة من بين السبعين. يتضمن اصدار الإسلام هناك أيضاً قضية لحم الخنزير وقضية الختان.
توسعت اهتمامات فلاديمير الدينية ليدعو وفداً من يهود الخزر ووفداً آخر من اليونانيين الارثدوكس وآخر من الألمان. لكنه قرر رفض اليهودية وإصدار المسيحية الذي جاء به الالمان. أبدى فلاديمير اهتماماً خاصاً بالوفد اليوناني وترك لهم المجال ليسردوا له قصة الخلق وقصص الأنبياء بأكملها لكنه أخبر الوفد أنه يرغب بالانتظار اكثر ليطلع على جميع العقائد.
المرحلة القادمة في خطة فلاديمير كانت بأن توجه نحو البويار (Boyars: فئة من النبلاء او مالكي الأرض) والكبار في السن ليحدثهم عن تغيير الدين. أعجبت فلاديمير فكرة الخلود وأبدى اهتماماً بفكرة الجحيم الإسلامية رغم أنه لم يسردها بحسب المؤرخ كما هي في الحقيقة في النصوص الإسلامية. يقول إنه وجد أعلى درجات المجد في مسيحية اليونانيين، الأمر الذي لم يجده لدى الألمان، كما أنه لم يجد أن المسلمين يتصفون بالسعادة. حدثت تلك المداولات في السنة القادمة بعد لقاءاته الدينية وزيارته لإمارة البلغار.
في السنة الثالثة أي العام 988 قرر فلاديمير بشكل غريب أن يهاجم خيرسون اليونانية، وطلب الزواج من اخت الامبراطور لكي ينسحب من المدينة. وتمت مداولات عديدة بينه وبين اليونانيين في القسطنطينية انتهت بقبوله التعميد قبل الزواج منها. كما تظاهر فلاديمير – أو أن القصة تقول ذلك على الأقل – بأنه أصيب في عينه ولم يعد يرى بشكل جيد، فقيل له أن العماد سيشفيه، وحالما تم تعميده قال بأنه شفي من علته. تزوج بعد ذلك فلاديمير من الاميرة اليونانية وطلب منه القساوسة اليونانيون أن يحطم الهته ويحرقها ففعل ذلك مع الاله بيرون الخشبي. كان ذلك التسلسل لا يبدو بريئاً أو خالياً من السياق وربما كان فيه نوع من الفهم المتبادل مع القسطنطينية. لكن هل كانت القسطنطينية مهتمة الى هذا الحد بتحويل تلك الشعوب؟ لم تكن تجربتهم مع البلغار جيدة في جميع الأحوال.
بالخروج من السجل الروسي الأول، يذكر أن فلاديمير كان تواقاً للاتصال مع الالمان او الفرنسيين أولاً لكنهم رفضوا تزويجه بشكل قطعي، وربما يقع خلف ذلك كواليس تظاهره برفض اصدار الالمان من المسيحية لأنه ليس “مجيداً” بما يكفي. استفاد البيزنطيون بشكل آني فقط من تحول فلاديمير لاستخدام قوة أرسلها لمساعدة القسطنطينية في قمع ثورة محلية. وتبع تحول فلاديمير الى المسيحية تحويله لاميرين من امراء البشنغ الى المسيحية ايضاً.
ما بعد المسيحية
لم يكن ذلك التحول للمسيحية شبيهاً بما حدث مع البلغار الذين اختاروا أن يكونوا في موقع قوة وحققوا انتصارات عديدة على البيزنطيين بعدها. يبدو أن تلك النزعة لاقتناء دين جديد ينسجم مع الغرب كان نذير ضعف. بوادر الضعف ظهرت بعد وفاة فلاديمير سريعاً فلم تعد هناك الكثير من الحملات العسكرية الخارجية وصارت النزاعات الداخلية بين الاخوة وأبناء العمومة أكبر بكثير. أول هجوم على القسطنطية بعد التحول للمسيحية حدث في العام 1043 وانتهى نهاية سيئة جداً حيث هاجم فلاديمير الحفيد ابن ياروسلاف بالسفن لكن سفنه تحطمت وأسر البيزنطيون فيشاتا (Vyshata) القائد في الحملة وسملوا عينيه.
بالمقابل فإن العدو الشرقي صار أكثر خطورة، فهل كان ذلك من المخاطر التي انتبه اليها فلاديمير ليسعى نحو تعزيز صلته بالغرب أو بالقسطنطينية؟ البولوفشيين او القومان بالإضافة للترك صارت هجماتهم على بلاد الروس – في أوكرانيا وروسيا الحاليتين – أكثر جدية بكثير. ورد ذكر الترك في السنوات 1060، 1080، وفي سنة سقوط كييف عام 1096. أما البولوفشيين (القومان) فلم يكد يتوقف ذكرهم كل بضعة سنوات حتى سقوط كييف وما بعد ذلك ايضاً. عدا ذلك فإن الصراع السياسي الداخلي كان هو الطاغي على الصورة بشكل عام بعد التحول للمسيحية.
التحدي الآخر الذي لم يرد في الكتاب قبل تلك الحقبة (ولعل ذلك من سوء التدوين وعدم دقة التفاصيل ليس إلا) هو ذكر المجاعات حيث ذكرت المجاعة في العام 996 أي بعد سنوات من التحول للمسيحية، وايضاً في العام 1071. ومن المثير للاهتمام في فترة المجاعة هو ظهور سحرة كانوا يعدون الناس باستخراج السمك من بطون النساء لو طعنوهن، فكان الناس يسلمون النساء فيقتلن. يذكر الكاتب أن ذلك كان يحدث لتقليل عدد الناس في فترة المجاعة بحسب رواية السحرة.
من غير المؤكد ما إذا كان التحول للمسيحية هو استجابة لعوامل القوة والضعف. لكن من الواضح جداً أنه لم يكن حدثاً قائماً على رغبة دينية فحسب بل بناءاً على توجه سياسي ما لم يكن هناك أيضاً خطة مبيتة لتحول كهذا.