[English] تقول رواية عن الحسين بن منصور الحلاج بأنه كان يقترح أفكاراً لا يفهمها الأشخاص الذين يحاكمونه دينياً او انه يقدمها بشكل متضارب فتارة يدعي الالوهية وتارة يبدو كمتدين تقليدي يصوم ويصلي ويدعو كأي مسلم. مما دفعني للتحقق من نمط ذكره لتلك الأفكار وهل هي نوبة هوس جنوني مما يقترن بمرض الاضطراب ثنائي القطب أم أنها أفكار مقصودة تحت التحكم؟ كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي يقدم نبذة شاملة عن كافة الروايات ذات الصلة بالحسين بن منصور.
الممارسات الصوفية
لوهلة بدا النص أدناه وكأنه احدى معايير تصنيف الاضطراب ثنائي القطب حيث تتبدل أزياء المرء حين مروره بنوبة الهوس لكنها تحتمل أيضاً النزعة الصوفية في التحلل من الملابس الفخمة واللجوء الى الخشن من الملابس او القليل من الملابس:
وكان بالأوقات يلبس المسوح، وبالأوقات يمشي بخرقتين مصبغ، ويلبس بالأوقات الدراعة والعمامة، ويمشي بالقباء أيضا عَلَى زي الجند، وأول ما سافر من تستر إِلَى البصرة كَانَ لَهُ ثمان عشرة سنة، ثم خرج بخرقتين إِلَى عمرو بن عُثْمَان المكي، وإلى الجنيد بن مُحَمَّد، وأقام مع عمرو المكي ثمانية عشر شهرا، ثم تزوج بوالدتي أم الْحُسَيْن بنت أَبِي يَعْقُوب الأقطع، وتعير عمرو بن عُثْمَان من تزويجه، وجرى بين عمرو وبين أَبِي يَعْقُوب وحشة عظيمة بذلك السبب.
يذكر الخطيب البغدادي: سمعت القناد يَقُولُ: لقيت الحلاج يوما فِي حالة رثة، فقلت لَهُ: كيف حالك؟ فأنشأ يَقُولُ:
لئن أمسيت فِي ثوبي عديم لقد بليا عَلَى حر كريم
فَلا يحزنك أن أبصرت حالا مغيرة عَنِ الحال القديم
ولم يرد هذا النمط من الممارسة الصوفية كثيراً لدى الحلاج لكنه ليس غائباً، ويذكر أيضاً النص أدناه في الحرمان من الطعام كما يذكر تعبده في جبل أبي قبيس وهو يتصبب عرقاً تحت الشمس ويذكر أيضاً حول تعبده في مكة:
دخل الْحُسَيْن بن مَنْصُور إِلَى مكة، وكان أول دخلته، فجلس فِي صحن المسجد سنة لا يبرح من موضعه إِلا للطهارة أو للطواف، ولا يبالي بالشمس ولا بالمطر، وكان يحمل إليه كل عشية كوز ماء للشرب، وقرص من أقراص مكة، فيأخذ القرص ويعض أربع عضات من جوانبه، ويشرب شربتين من الماء شربة قبل الطعام، وشربة بعده، ثم يضع باقي القرص عَلَى رأس الكوز فيحمل من عنده.
من الغريب أيضاً ظهور الناحية الغريبة بالتلذذ بتعذيب الذات للحلاج:
أريدك لا أريدك للثواب ولكني أريدك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
سلوك الحلاج مع الناس
ينقل الخطيب البغدادي:
ووقع لَهُ عند الناس قبول عظيم حتى حسده جميع من فِي وقته، ولم يزل عمرو بن عُثْمَان يكتب الكتب فِي بابه إِلَى خوزستان، ويتكلم فيه بالعظائم حتى حرد ورمى بثياب الصوفية، ولبس قباء، وأخذ فِي صحبة أبناء الدنيا.
قُلْتُ لأبي الْعَبَّاس بن عطاء: ما تقول فِي الْحُسَيْن بن مَنْصُور؟ فَقَالَ: ذاك مخدوم من الجن. قَالَ: فلما كَانَ بعد سنة سألته عنه، فَقَالَ: ذاك ابن حق.
يدل هذا وغيره أن للحلاج مقومات استطاع بواسطتها أن يكسب مكانة المحيط من الناس وأن يكون شخصاً مثيراً للجدل ويعزز ذلك أيضاً رواية أخرى حول حيرة الناس في تصنيفه:
وصنف لهم كتبا لم تقع إلي إِلا أَنَّهُ لما رجع كانوا يكاتبونه من الهند، بالمغيث، ومن بلاد ماصين وتركستان، بالمقيت، ومن خراسان، بالمميز، ومن فارس، بأبي عَبْد اللَّهِ الزاهد، ومن خوزستان، بالشيخ حلاج الأسرار، وكان بِبَغْدَادَ قوم يسمونه المصطلم، وبالبصرة قوم يسمونه المحير.
أفكاره
في البدايات يكتب الحلاج لأحمد بن عطاء:
كتبت ولم أكتب إليك وإنما كتبت إِلَى روحي بغير كتاب
وذلك أن الروح لا فرق بينها وبين محبيها بفصل خطاب
وهكذا ترد عدة روايات أخرى حول أشخاص كتبوا له أو كتب لهم أيضاً، ثم سنرى كيف أن هذه الفكرة ستتقدم الى مفهوم صلته مع الله. غير أن ادعاءه المباشر للربوبية لم يكن واضحاً دائماً، فمثلاً في رواية موته لا تذكر أقواله:
ثم حبس فأقام فِي الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إِلَى حبس حتى حبس بأخرة فِي دار السلطان، فاستغوى جماعة من غلمان السلطان، وموه عليهم واستمالهم بضروب من حيله حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه، ويرفهونه، ثم راسل جماعة من الكتاب، وغيرهم بِبَغْدَادَ وغيرها، فاستجابوا لَهُ، وتراقى به الأمر حتى ذكر أنه ادعى الربوبية، وَسُعِيَ بجماعة من أصحابه إِلَى السلطان فقبض عليهم، ووجد عند بعضهم كتب لَهُ تدل عَلَى تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بلسانه بذلك، وانتشر خبره، وتكلم الناس فِي قتله فأمر أمير المؤمنين بتسليمه إِلَى حامد بن الْعَبَّاس، وأمر أن يكشفه بحضرة القضاة، ويجمع بينه، وبين أصحابه فجرى فِي ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره، ووقف عَلَى ما ذكر لَهُ عنه فأمر بقتله، وإحراقه بالنار فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاث مائة فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط، وقطعت يداه، ورجلاه، وضربت عنقه، وأحرقت جثته بالنار، ونصب رأسه للناس عَلَى سور السجن الجديد، وعلقت يداه، ورجلاه إِلَى جانب رأسه.
ولا ندري إن كان سوى ذلك من التشنيع عليه أم مما قاله حقاً فمثلاً:
سمعت عمرو بن عُثْمَان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي، فقلت: أيش الذي وجد الشيخ عليه؟ قَالَ: قرأت آية من كتاب اللَّه، فَقَالَ: يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به.
أو الرواية أدناه:
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن أَبِي الْحَسَن الساحلي، عَنْ أَبِي الْعَبَّاس أَحْمَد بن مُحَمَّد النسوي، قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْحَافِظ يَقُولُ: سمعت إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْوَاعِظ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّازِيّ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حمشاذ: حضر عندنا بالدينور رجل، ومعه مخلاة فما كَانَ يفارقها بالليل، ولا بالنهار ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه من الرحمن الرحيم إِلَى فلان بن فلان فوجه إِلَى بَغْدَاد، قَالَ: فأحضر، وعرض عليه، فَقَالَ: هذا خطي وأنا كتبته.
غير أن ما عليه بعض الأدلة هو قوله بحلول الإرادة الإلهية فيه كما هو شائع بين الصوفية.
فقالوا: كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الربوبية؟ فَقَالَ: ما أدعي الربوبية، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إِلا اللَّه، وأنا واليد فيه آلة، فقيل: هل معك أحد؟ فَقَالَ: نعم ابن عطاء، وأبو مُحَمَّد الجريري، وأَبُو بَكْر الشبلي، وأبو مُحَمَّد الجريري يستتر، والشبلي يستتر فإن كَانَ فابن عطاء فأحضر الجريري فسئل، فَقَالَ: هذا كافر يقتل، ومن يَقُولُ هذا؟ وسئل الشبلي، فَقَالَ: من يَقُولُ هذا يمنع.
وهولا يكذب ربما حين ذكر قائمة من كبار الصوفية ممن يقولون بقوله، لكنهم أكثر حذراً ودقة في تحديد ما يقولون وأمام من يقولونه، فضلاً عن علاقتهم بالسلطة وشعبيتهم وخطرهم على السلطة.
وينشد لفتى كان في زمن الحلاّج[1]:
إن يكن مذهب الحلول صحيحاً … فإلهي في حرمة الزَّجَّاج
عرضت في غلالة بطراز … بين دار العطّار والثلاّج
زعموا لي أمراً وما صحَّ لكن … هو من إفك شيخنا الحلاجّ
الحيل والسحر
ترد في أكثر من موضع قصة ذهاب الحلاج الى الهند لتعلم السحر وممارسته للحيل بشكل قد يكون عمل مسبقاً في الترتيب له، أو فيما أثار حيرة الناس حوله
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمَد الحيري، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، قَالَ: قَالَ المزين: رأيت الْحُسَيْن بن مَنْصُور فِي بعض أسفاره، فقلت لَهُ: إِلَى أين؟ فَقَالَ: إِلَى الهند أتعلم السحر أدعو به الخلق إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ
وترد قصة طويلة يرويها منجم مجهول الاسم عن أن الحجاج كان يمسح يده على الناس فيبرؤون من أمراضهم وأن المنجم هذا قد زار الحلاج في بيت له ودخل لفترة من الزمن فخرج وهو مبتل ويعلوه الطين وأعطى للمنجم سمكة فقال أنه ذهب للأهوار وجلب السمكة وعاد فيقول المنجم أنه دخل ووجد فيه مساحة تبدو خالية ومن ثم تفصلها عن جزء آخر من البيت قطعة استطاع ازالتها ليرى دار كبيرة فيها:
بستان عظيم فيه صنوف الأشجار والثمار، والريحان، والأنوار التي هو وقتها وما ليس هو وقته مما قد غطي وعتق، واحتيل فِي بقائه، وإذا الخزائن مفتحة فيها أنواع الأطعمة المفروغ منها والحوائج لما يعمل فِي الحال إذا طلب، وإذا بركة كبيرة فِي الدار فخضتها فإذا هي مملوءة سمكا كبارا وصغارا، فاصطدت واحدة كبيرة وخرجت، فإذا رجلي قد صارت بالوحل والماء إِلَى حد ما رأيت رجله
ثم يذكر المنجم المجهول أنه خاف من أن يقتله الحلاج فأراد أن يهرب فلحقه الحلاج فضربه المنجم بالسمكة وخرج واستلقى خارج البيت خائفاً فقال له الحلاج أنه سيقتله لو تكلم بذلك وأنه كتمه حتى قتل الحلاج. وله حيلة أخرى في خيارة أعطاها لأحد رفاقه من مكان ما حيث كانا مسافرين. كما أن له حيلة أخرى في اتيانه بنوع من الحلوى لرفاقه في مكة فذهب أحدهم لجميع دكاكين الحلوانيين ليجد أنهم لا يصنعون منها في الوقت الذي نزل الحلاج أسفل جبل أبي قبيس لبرهة وعاد بالحلوى وهي ساخنة. وفي مرة أخرى أعطى الحلاج تفاحة لأحد زائريه قائلاً أنها من شجر الجنة[2].
طبعاً مما يثير الشك في كل ما يقال حول الحلاج هو ما يزعمه أتباعه الكثر والذين من الواضح استمرارهم لاحقاً بتقديسه لدرجة أن مقام الخضر حيث أعدم الحلاج قد تم تحويله لموضع مقدس للصوفية وبقي معروفاً بكونه مكان اعدام الحلاج حتى فترة متأخرة من العهد العثماني، وبالمقابل فهناك المشنعين عليه من السلطة والتابعين لها والمنافسين من الصوفية أيضاً في فترة كانت السلطة تقرب الصوفية.
خلاصة
هل يمكن التحقق إن كان ادعاء الحلاج للالوهية حقيقياً أو أنه فضلاً عن ذلك جزء من متلازمة نفسية وحالة هوس؟ ما دفعني لهذا التحقيق البسيط هو إحدى الروايات الملخصة الحديثة عن قصة الحلاج بأنه كان يتذبذب بين حالتين حيث كان يقول في احداهما أنه الله او يتكلم باسم الله وفي الأخرى يبدو متديناً تقليدياً، غير أن من الواضح أن سيرة الحلاج مختلفة تماماً فهو لا يتبنى سوى المسار السائد في حلول الإرادة الإلهية والاتحاد مع الله ومبدأ اللاثنائية.
ولا تتأكد عقيدة الحلاج فقط من خلال ما ذكر في هذا المقال بل في أشعار كثيرة له لم أنقلها هنا. أما حول ادعاءه بالربوبية فلا يوجد دليل على ذلك سوى ضمن الروايات المتعلقة بقتله حيث استخدم الموضوع لإقامة الحجة عليه لإعدامه بالطريقة البشعة التي أعدم فيها. من الواضح أيضاً أن الحلاج – وهذا قد يشير لبعده عن انعدام التخطيط والخلل النفسي فحسب الى التخطيط الدقيق طويل الأمد – قد قام بإعداد الخطط والتحضيرات المسبقة للمعجزات، والروايات حول معجزاته تتوارد من الجميع وهناك ما يبررها ويشرحها وهناك ما لا يبررها، مثلا اعداده الحلوى الذي يتركه الراوي لغزاً، وما يقال أن الحلاج قد حلج كمية كبيرة من القطن في واسط لفترة قصيرة او اعداده بستان ومكان يحضر فيه للحيل السحرية والالاعيب، مما قد يشير الى امتلاكه لمهارات يدوية في الحرف والصناعات المختلفة التي استثمرها في الترويج لنفسه على أنه صاحب معجزات.
وبالتالي فقد تفوق على الصوفية المشاهير حينها وذاع صيته وكون جماعة من مئات الأشخاص مما جعله في موضع خطر بأعين السلطة فتم سجنه لفترة طويلة ثم إعدامه بل هناك من الروايات ما تربط بينه وبين الدعوة الاسماعيلية الفاطمية في الشرق، كما يجب أن تدور التساؤلات حول الاموال والامكانيات التي أهلت الحلاج ان يمتلك الشهرة بهذا الشكل، فكيف مول ايصال رسائله وكيف مول أسفاره بحيث صار معروفاً في الامصار.
تبقى حجة واحدة قد تنفع لتخمين تشخيصه بمشكلة نفسية وهي تغييره لملابسه بين ما هو رث وبين ما هو جيد، في إشارة الى أحد معايير بالتحلل من الملابس” غير أن الحجة لذلك أنسب في كونه يتخذ هذه الملابس بالنظر لكونه من الصوفية حيث ورد عنه أنه لبس الصوف الخشن.
المصدر الرئيسي:
ص 688 – 692 – كتاب تاريخ بغداد ت بشار – الحسين بن منصور الحلاج – المكتبة الشاملة
ص430 – الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة – الحلاج داعية الإسماعيلية في المشرق – المكتبة الشاملة
مصادر أخرى:
[1] ص152 – كتاب رسالة الغفران – الحلاج – المكتبة الشاملة
[2] ص101 – كتاب نثر الدر في المحاضرات – حيلة الحلاج – المكتبة الشاملة