بين صفحات التاريخ الحديث للعراق في كتب عديدة يغيب عن القارئ اي شيء يتعلق بالريف، هناك بدو وقبائل بعضها مرابط في اماكن معينة لفترات طويلة نسبيا مما يخلق مفهوم مبسط للريف، وبعضها الاخر دائم الترحال. اما ما تفعله هذه القبائل لتنال عيشها فهو الرعي، والذي يتحسن في مواسم وسنوات معينة حتى ينتج الاف الخراف التي ينهبها الولاة حالما تسول لهم انفسهم اذا غابت او تأخرت الضرائب أو إذا ما عصت القبائل. اما اخر ذكر لعمل اروائي كالقناطر (سدود صغيرة) او القنوات فربما يرجع الى القرن السابع عشر. اين الريف؟ اين الزراعة؟ اين ارض السواد؟
ترجع القصة الى نهاية العصر العباسي الاول، قصة تدهور السواد، أحد أكثر الاقاليم انتاجية في الدولة العباسية الشاسعة بعد بلاد فارس. البحث المعنون ب “انهيار أقدم حضارة في العالم: الاقتصاد السياسي للدول المائية والازمة المالية للدولة العباسية” الصادر عام ٢٠١٦ لكل من روبرت الين استاذ التاريخ الاقتصادي بجامعة نيويورك في ابو ظبي وليندر هيلدرينك الباحث الاقتصادي في جامعة هارفرد.
الدولة المائية (hydraulic state) هو المصطلح الذي يقدمه هذا البحث عن كيانات سياسية يقع مصيرها كليا بيد المورد المائي الذي يزودها، صحراء قاحلة يشقها نهر فيمنحها الحياة لكن بشروط تقع على عاتق الدولة نفسها، اي على عاتق الحكومة واجهزتها. قد تنطبق هذه الحالة على مصر ايضا الى حد ما، لكن الدلتا توفر بعضا مما يحتاج الى جهود بشرية كبيرة في العراق لإحياء الارض.
تبدأ القصة في البحث بالساسانيين وجهودهم الكبيرة في استصلاح اراضي العراق وجعله مشروعا زراعيا ضخما وناجحا يدر الارباح وتستغل عائداته في المزيد من الاستصلاح. قسم الساسانيون العراق (طبعا المقصود هو السهل الرسوبي) الى مناطق ضريبية تحمل اسماءا فارسية وبقيت على هذا الحال حتى انهيار النظام لاحقا في العصر العباسي الثاني، والمناطق هذه كانت بضعا وعشرين منطقة. كما ترتكز الخطة على مد أنهر وقنوات من الفرات (الاكثر ارتفاعا) الى دجلة.
ترتكز فكرة البحث على ان واقع العراق الصحراوي ووجود النهرين فيه يتطلب دولة قوية لكي تستفيد من هذه الارض وتتمكن من ارساء اسس الحضارة بواسطة مردوداتها. الداعي لوجود الدولة هو ان انشاء قطاع زراعي ناجح لا يمكن ان ينجح دون وجود مشاريع حكومية ضخمة لحفر الانهر والجداول في ظل واقع العراق الصحراوي. ويعزو الباحثان هنا المشروع الزراعي الاضخم ربما بعد فجر الحضارة في بلاد الرافدين الى الساسانيين.
لم يهمل العرب المسلمون الامر، فقاموا ببناء عدة مدن يصفها الباحثان بانها تجمعات سكانية للقبائل التي ساهمت في الفتح ليتم توطينها في الكوفة وواسط والبصرة، ثم بمرور الزمن زالت عطايا وميزات الجيل الثاني من هؤلاء ليندمجوا ضمن المجتمع الموجود. لم يذكر الباحثان بعضا من المشاريع التي اجراها الحجاج مثلا، فالبحث مركز حول الانهيار العباسي.
يبتدأ البحث بمناقشة قضية خطيرة جدا في نظام الحكم وهي نقطة اختلاف بين اوربا والامبراطوريات الاسلامية العربية، الا وهي اسلوب الوراثة في الحكم. سنرى تباعا كيف كان هذا سببا اساسيا في انهيار نظام زراعي مستقر دام مئات السنين.
في اوربا تعد قواعد وراثة الحكم شديدة الصرامة والوضوح، وهي بذلك تقلل من خطورة النزاعات على الحكم. اما في الدولة العباسية فقد كان النظام شديد العشوائية وهو ليس الا تقليدا لوراثة المشيخة في القبائل العربية، حيث يمكن للأخوة والاحفاد والابناء المنافسة على السلطة في نفس الوقت ويمكن ان يكون الجميع مرشحون دون ان يكون هناك قانون او عرف لتداول السلطة الملكية.
يتبع ذلك فرق ثاني، وهو طبيعة السلطة المطلقة، حيث يكتسب الملوك الاوربيون قوتهم وتزود جيوشهم من قبل النبلاء، مما يضع حدودا للحاكم تحول بينه وبين الطيش وتساعد في الاستقرار وقد ساعدت أوربا مستقبلا في التحول الى الملكيات الدستورية ثم الى الديمقراطية.
اما العباسيون (وينطبق الكلام على غيرهم من حكام الشرق الاوسط) فقد كانت السلطة مطلقة وغير مقيدة وفي نفس الوقت مهددة بالخلافات العائلية، وهذا فتح الباب لعرف معين ساد لاحقا في الشرق الاوسط، وهو جيوش العبيد، اول من كون جيشا من العبيد المخلصين له هو الخليفة المعتصم الذي اشترى الالاف من العبيد الترك ليجعلهم جيشه الخاص الموثوق امام نوائب الدهر. الجيش هذا بحسب البحث كان أحد الاخطاء الكبرى وكان وبالا على المنطقة لاحقا.
يستند الباحثان على تدوينات تاريخية من تلك الحقبة يذكر فيها المؤرخون مقدار الضرائب المستحصلة من كل منطقة، ويشيران إلى انخفاض مقدار الضرائب من 280 مليون درهم في عهد هارون الرشيد من جميع الأقاليم ومنها 80 مليون درهم من العراق ولا يعادلها سوى ما يُجبى من ايران والذي يصل إلى 150 مليون درهم، فيما تقل جميع الأقاليم الباقية عن هذا المبلغ. ثم يقوم الباحثان باحتساب قيم أخرى من حيث مساحات الأرض المزروعة والتي يُمكن أن تأتي بهذا المبلغ، وعدد الفلاحين وتوزيع النسب بين الفلاحين وسكان المدن وغيرها. من البيانات المذكورة في كتب المؤرخين عن مقادير الرواتب والضرائب يمكن تقدير عدد الموظفين في عهد هارون الرشيد في ارجاء الامبراطورية ب٥٠٠ ألف موظف. مع جيش قوامه ١٠٠ ألف مقاتل. ومن الأرقام التي يصل اليها الباحثون أن تعداد العراق في فترته الذهبية كان 5 ملايين و 800 الف نسمة، منهم 4 ملايين فلاحين والبقية من ساكني المدن.
يستخدم 36% من هذه الضرائب في ادامة الأرض نفسها وفي تمويل جامعي الضرائب، أما المتبقي فيعود لتمويل المصاريف السيادية ودعم الجيش والمشاريع الثقافية مثل حركات الترجمة والشعراء والكتاب. ويُرجع الباحثان انحطاط الحركة العلمية وضعفها فيما بعد الخليفة المعتمد إلى أسس اقتصادية بحتة تتعلق بالانهيار الحاصل في النظام الزراعي.
في عهد هارون الرشيد (بدايات القرن التاسع ونهايات القرن الثامن) كانت شبكة الري تدار من قبل الدولة وتحديدا من ديوان الخراج وتتألف من قنوات ضخمة بين الفرات ودجلة موروثة بجزء كبير منها من العهد الساساني كما في التقسيمات الضريبية.
في ستينات القرن التاسع انخفض الدخل من ٢٨٠ مليون درهم الى ٣٨ مليون درهم وذلك بعد النزاعات على الخلافة بين ابناء المتوكل ووجود الاتراك الذين بدأوا كجيش من العبيد تابع للمعتصم وانتهوا بصفتهم الحاكم الفعلي للعراق.
في بداية انخفاض الدخل قرر الحكام سواء الخليفة او الاتراك ان يقطعوا رواتب الجنود في المناطق البعيدة فتحول الجنود الى قوات بايدي الحكام الانفصاليين في الاقاليم المختلفة والذين قرروا الانفصال عن بغداد كليا او الاعتراف بمكانة الخليفة وذكره في الخطبة والسكة او احداهما. الخطوة القاصمة الثانية كانت تجاه الفلاحين في العراق، كان نصف المحصول تقريباً يؤخذ من غير المسلمين وخفض الى ٤٠٪ في عهد المأمون، لكن مع تزايد الداخلين في الاسلام كان الدخل ينخفض اساسا، ومع ضعف نفوذ الدولة وسنوات تفككها في ستينات القرن التاسع أطلقت الحكومة يد الجنود على الفلاحين لأخذ مستحقاتهم منهم مما سبب ضيقا وثورة من الفلاحين، ثم اتبع ذلك بإقطاع الاراضي للقادة العسكريين الاتراك. كل هذا مع التردي المتواصل لخدمات الري التي توفرها الدولة، والتي بدأت بانهيار جزئي في محافظة الانبار جرى اثناء سنة الحرب بين الامين والمأمون.
انتقلت جباية الضريبة من الجباية المباشرة من الدولة الى الجباية من قبل موكلين بها، مثل احمد بن محمد الطائي الذي كان يدفع للدولة ٣٨ مليون درهم وربما كان هو يحصل على نسبة كبيرة ورفع نسب الضرائب بشكل ظالم على الفلاحين.
يرافق الانحدار في الانتاجية انحدارا اخر في عدد السكان الذين من غير المعروف هل انهم ماتوا او هربوا او هربوا الى اين مما يجعل العراق شبه خال من السكان في القرن العاشر الميلادي. وقد رافق بدايات الانحدار قيام ثورة الزنج التي ساهمت الى حد كبير في اضعاف كيان الدولة. كان لثورة الزنج دور رئيسي في اضعاف المشاريع الاروائية ومشاريع اصلاح الاراضي.
برأيي إن البحث فريد من نوعه ويُمكن القيام بأعمال مشابهة له وفقاً للبيانات البسيطة الموجودة في تاريخ العراق الحديث، لكن البحث يركز على الناحية السياسية ودور الدولة، فيما قد يكون هناك عوامل أخرى مثل العوامل البيئية! وفي نهاية الأمر لم يكن العصر الذهبي شاسع المدة، تخيل أن حكماً جيداً كان في بلدك قبل 50 سنة، والآن يهجم الجند على الفلاحين لانتزاع ارزاقهم.
القرى في العراق من الفتح الاسلامي الى نهاية القرن التاسع، الخضراء ناشئة بعد الفتح الاسلامي، والحمراء موجودة منذ الحقبة الساسانية، القنوات الزرقاء هي التي انشئت في الحقبة الاسلامية والحمراء انشئت في الحقبة الساسانية
قرى العراق منذ نهاية القرن التاسع إلى سقوط بغداد
المقاطعات الضريبية في أرض السواد