لا يمكن انكار ما حدث في مدن فارسية وعربية وتركية عديدة من امتحان وقتل لعلماء اهل السنة ولذرياتهم لكن عموما فإن الفترة الأشهر في تلك الاحداث وهي عهد الشاه اسماعيل لم تكن بالطويلة، فقد نكل العثمانيون بالشاه واحتلوا عاصمته واسروا زوجاته وجعلوهن اماءا وقضوا على سلطانه في شمال غرب ايران. اذا تلك الفترة القصيرة ليست كافية لوحدها للقيام بذلك التأثير كله.
كما يلاحظ ان التأثير الصفوي لم يكن متساويا تجاه المناطق الخاضعة لهم، فلو كان لهم رغبة في تعميم التشيع بقوة السيف فإن رغبتهم هذه لم تكن لتشمل كردستان والعراق كما شملت بدرجة اكثر بقليل المدن الفارسية السنية فيما كان التركيز على اذربيجان الحالية بجزءها الجنوبي التابع لايران حاليا والشمالي المستقل.
لكن التأثير على تلك البقاع لم يكن مفاجئا وقسريا بل كان على مراحل من الدعوة الصوفية منذ 5 أجيال سبقت الشاه اسماعيل ومنذ عهد جده صفي الدين مما لم يحول مذهب المنطقة فحسب بل جند الالاف من اهلها كمقاتلين في تنظيم متطرف وهذا ليس من عمل سنة او سنتين من حكم الشاه اسماعيل.
اما جنوب العراق فقد اضطلع المشعشعون بدور تحويله مذهبيا وقبل الصفويين الذين لم يكونوا مهتمين به بتاتا، ويبدو من ثورة ذوالفقار خان والكلهورية وحيازتهم على بغداد أن المناطق من بغداد الى خانقين وما بعدها داخل ايران لم تكن من البقاع ذات الدعوة الناجحة والتغيير المذهبي الناجح او ترسيخ الولاءات، لاسيما ان ذوالفقار كان مواليا للعثمانيين كما ان المنطقة ربما تكون قد اظهرت مناعة ضد السلوك الطائفي الشديد التطرف والمتمثل بقتل عوائل عريقة وهدم مراقد مقدسة للسنة كانت موجودة لقرون بالتزامن مع وجود مراقد الشيعة بشكل متهادن.
دياربكر هي الاخرى استغلت الهزيمة الساحقة للصفويين وطردت نائبها وخاطبت السلطان سليم ياوز، ولم تكن قد تشيعت تحت حد السيف.
اما اراضي الاكراد في هورامان ومريوان وسنه والسليمانية واربيل فقد كانت ملاصقة لقلب الدعوة الصفوية والطريقة الصفوية وكانت تحت حكمهم ايضا لكنها لم تتشيع قط.
بالمقابل فإنه يمكننا التمييز بين المتشيعين لاحقا والمتحولين مباشرة الى الاثنى عشرية وليس الى طريقة الصفويين او تشيع المشعشع وبين القزيلباشية الذين ما زالوا يشكلون تجمعات صغيرة في قرى بالعراق وتدين بمذاهب علوية لا تعلم هي نفسها اصول تحولها او اقتناءها لهذه الطرق.
مشاهدات حول الواقع المذهبي في الدولة الصفوية
أضيف الاحداث الآتية التي اطلعت عليها واستنتجتها من كتاب تاريخ الدولة الصفوية في إيران لمحمد سهيل طقوش:
– خلال حكم الشاه عباس الصفوي، الأكثر تعصباً والأكثر تنظيماً في نفس الوقت كان حاكم همذان سنياً، ويقال أنه قتل لأنه اضطهد الشيعة. طبعاً في ايران الحالية من الصعب أن نسمع بحاكم سني حتى في المناطق السنية فكيف بذلك الوقت؟ هذا يحمل إشارة إلى طبيعة الوضع آنذاك.
– اسماعيل الثاني حكم لسنة و8 أشهر 1576-1577 تحول للمذهب السني وكبح نشاط رجال الدين الشيعة وقرب فقيها حنفياً فارسياً وهو مخدوم شريفي شيرازي. طبعاً لا يمثل الشاه اسماعيل الثاني ظاهرة فقد انقلب عليه التركمان القزيلباشية بسرعة واستبدلوه، لكنه يلفت النظر إلى إمكانية القيام بشيء كهذا بعد 70 سنة من نشوء الدولة، وهو بحد ذاته إشارة إلى أن صورة تحول إيران إلى المذهب الشيعي ليست كما تنقل إلينا، إذ لم يكن الوضع مستقراً ومحكماً بهذا الشكل لدرجة تحول شاه صفوي إلى المذهب السني.
– ما ذكرته سابقاً من مناطق وقعت تحت حكم الصفويين لفترة طويلة لكنها لم تتحول مذهبياً.
– من القوات المساهمة في احتلال بغداد الثاني، كانت عشيرة الآفشار التركمانية، والآفشار اليوم مختلطة بين سنة وشيعة في افغانستان وايران، لكن ظهور نادر شاه بعد فترة من أوج القوة الصفوية كزعامة تركمانية سنية تشير إلى أن واقع القبيلة في وقتها لم يزل مختلطاً.
– لجأ الصفويون لأساليب لم تعرفها المنطقة ولم يعرفها الشيعة من مهرجانات طقسية يعزوها كثيرون اليوم إلى عهدهم، فضلاً عن تنظيم رجال الدين العرب الشيعة وتمويلهم. فلماذا سيحتاجون لذلك لو كان الأمر مقتصراً على المذابح والتحويل المذهبي القسري بالسيف والذي جرى خلال بضعة سنوات؟
طبعاً الرواية السنية التقليدية تقول أن مجازر كثيرة قد حدثت وأن السيوف وضعت على الرقاب من أجل التغيير، الذي تم بسرعة كبيرة. وعلي الوردي في لمحاته يختزل هذا الموضوع ذاكراً قصص مشابهة ليست خيالية أو كاذبة لكنها محدودة في مناطق معينة، مثلما حدث مع بغداد عام 1624 والتي كان تحويلها إلى التشيع أمر ستراتيجي، بخلاف مناطق أخرى في كردستان أو خراسان أو بلوشستان أو عربستان. ما هي الحوادث الداعمة للرواية هذه؟
– حوادث مع مدن ضمن ايران واذربيجان.
– التعامل الوحشي مع أسرى العثمانيين من سمل العيون والتعذيب، مقابل العفو في حال ترك المذهب السني.
أرجح الظن أن ما كان يجري هو قمع واقصاء لرجال الدين بالدرجة الأساس، مع حوادث متفرقة للقتل. وطبعاً لن يشاهد الفرس السنة وقتذاك قنوات فضائية أو يحتفظون بكتب فانتشار الكتب ليس أمراً شائعاً للعامة، وبالتالي يصبحون في قطيعة مع مذهبهم السابق. ومن جهة ثانية فإن طابع المهرجانات والطقوس الشائع لدى الإثنى عشرية اليوم والذي ينسبه كثيرون لتلك الفترة من حكم الشاه عباس خصوصاً يشير ذلك إلى دور ثاني مهم بعد القطيعة، وهو الإعلان والترويج وبطرق لم تعرفها المنطقة. ولم يكن الصفويون ليلجأوا لهذه الأساليب لو كان تحويل المذهب بالسيف بهذه السهولة والقصر في الفترة الزمنية.
هذا ليس دفاعاً عن الصفويين ولكن محاولة لفهم ما جرى بطريقة واقعية أكثر.
الفرس السنة اثناء الغزو المغولي
يتضح من اسماء بعض الشخصيات البارزة في العهد المغولي ونهاية العهد العباسي وجود فئة الفرس السنة الذين لم يعودوا معروفين بكثرة اليوم سوى في شرق إيران وفي أفغانستان وطاجيكستان. أذكر منهم شرف الدين الجيلي الفقيه الحنبلي في بغداد، عمر القزويني أحد الشخصيات في البلاط العباسي، فخرالدين الطهراني القاضي الحنفي، كيخسرو علاء الدين بن عمر الجويني أول حاكم مدني عينه المغول على بغداد وما جاورها وقد بنت زوجته المدرسة العصمتية التي تدرس فيها المذاهب الأربعة.
ولم يكن معظم هؤلاء من سكان ايران بل من سكان العراق من الفرس الموجودين بكثرة طيلة الحكم العباسي. كما يتضح في تلك الفترة أن الاسماعيلية كانت لهم نسبة غير قليلة من الأتباع في إيران فضلاً عن مناطق أخرى، أما الشخصيات الشيعية الإمامية البارزة التي اطلعت عليها حتى الآن مثل ابن العلقمي وابن طاووس فكانوا عرباً من مناطق محيط الحلة وكربلاء وحتى من بغداد.
خلاصة
– التأثير الصفوي القسري لتحويل السنة الى شيعة في عهد الشاه اسماعيل موجود.
– تأثير الدعوة الصوفية الصفوية في اذربيجان اكبر واكثر فاعلية من التأثير اللاحق اثناء الحكم.
– لم يكن الصفويون في عهد الشاه اسماعيل مهتمين بتحويل الكثير من الاقاليم مذهبيا بل كانوا مركزين على بقاع معينة.
– التحويل المذهبي القسري في عهد الشاه اسماعيل كان قصير زمنيا.
– هناك اخرين اضطلعوا بالتحويل المذهبي لكنهم لم ينالوا الاهتمام والتركيز.
– الصفويون في عهد الشاه اسماعيل انتجوا ميليشيات وتجمعات قزيلباشية ما زالت موجودة حتى الان وهي متمايزة عن بقية الشيعة الاثنى عشرية.