التصنيفات
العصر العباسي تاريخ الترك تاريخ العراق تاريخ ايران

الانتماءات القومية في الوزارة العباسية

يعكس توزيع المناصب في الوزارة العباسية طيلة القرون الخمس حقيقتان مهمتان عن الدولة العباسية بجميع أطوارها، بل وتتعدى ذلك الى دول المغول والتركمان وحتى الحقبة الصفوية، وهي الحضور الفارسي اللافت في هذا المنصب وفي الحكم بشكل عام. فمن أصل 94 وزيراً يمكن تخمين أصولهم من خلال ذكر مدنهم واسماءهم وانسابهم او ذكر قوميتهم بشكل مباشر، يمكن إيجاد 29 وزيراً فارسياً أو من الشعوب الايرانية، 4 من الترك، و44 من العرب والنبط بشكل مختلف فيه او يحتمل الاحتمالين. مع 3 من المحتمل ان يكونوا عربا او كردا او نبطاً.

أما الحقيقة الثانية ذات الصلة فهي أن الخارطة الجيوسياسية للدولة العباسية تتركز بشكل رئيسي في العراق وايران وإن كانت هناك أقاليم أبعد في الحقب الأولى يفترض أنها موالية للدولة العباسية. لم يكن هناك أشخاص تولوا هذا المنصب من مناطق أخرى باستثناء الترك، الذين لم يكن وجودهم السياسي نابعاً من مجاورتهم للدولة العباسية ووقوعهم البعض من مناطقهم تحت حكمها، بل كانوا ينتمون الى المماليك المقاتلين الذين كان يتم جلبهم، على الأغلب بصورة أكثر موقرة بكثير من العبيد الذين يستعبدون للعمل. كما أن هناك بعض الاستثناءات لاشخاص ولدوا في مناطق في الشام او ترجع اصولهم الى هناك ويقتصر هذا على أبي عبيد الله معاوية بن يسار، وأحمد بن خالد الأحول وكلاهما من الموالي.

يمكن تمييز نوعين من الأسماء غير الإيرانية لمن ينتمون للعراق: الأسماء التي تحمل تسمية قبيلة عربية واضحة مثل يحيى بن محمد بن هبيرة الفزاري أو إسماعيل بن بلبل الشيباني أو سليمان بن وهب بن سعيد بن عمرو الحارثي (رغم أنه متقمص للقب القبيلة[1])، أو الأسماء التي تبدو عربية لكنها لا تحمل قبيلة عربية أو يقال عن صاحبها أنه من الموالي فضلاً عن عدم وجود قبيلة عربية له مثل أحمد بن أبي خالد الأحول الذي لا يحمل تسمية قبيلة عربية كما يذكر ابن الطقطقي أنه من الموالي، بنو فرات أيضاً لا يحملون أي تسمية لقبيلة عربية ويعرف عنهم أنهم من قرى الدجيل بشمال بغداد[2]. وبطبيعة الحال، لا يشترط بقواعد التسمية الوسيطة تلك أن تشمل النبط فقط بل الفرس أيضاً فمثلاً من المعروف أن أبو سلمة الخلال كان ابن رجل فارسي في الكوفة لكن اسمه يتضمن اسم مهنة بالإضافة الى ان جزئي الاسم عربيان واسمه الكامل أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال الهمداني مولى السبيع[3].

أما الأسماء الإيرانية فتتميز بورود أسماء غير عربية في الاسم الثاني او حتى الأول مثل عيسى بن فرخان شاه أو نوشروان بن خالد، وأحياناً بذكر المدينة الفارسية فقط مثل عبدالله بن محمد بن يزداد الأصفهاني، كما يمكن تمييز البعض من الفرس أو الشعوب الإيرانية بشكل عام بذكر ذلك مباشرة رغم عدم وضوح التسمية تماماً كما ذكرنا في حالة ابي سلمة الخلال. ويحمل بعض الفرس لقب الفارسي مباشرة مثل أبو جعفر الفيض بن أبي صالح الفارسي أو يعقوب بن داود الفارسي. ويتخذ الأتراك ذات القواعد لكن في بعض الأحيان يرد اسم التركي لوحده مثل بجكم، توزون، وأتامش. كما يعلن البعض قوميتهم في الاسم مثل يحيى بن خاقان بن عرطوج التركي.

وتبقى مع ذلك حالات مجهولة فلا يكفي الاسم لوحده ولا تتوفر أي معلومات عن منطقة اصل او ولادة الوزير مثل أحمد بن عمار بن شادي البصري الذي يحمل اسماً غير عربي (يوسف بن أيوب بن شاذي هو اسم صلاح الدين الايوبي مثلاً) لكنه بصري، فهل هو نبطي، عربي أم من الشعوب الإيرانية؟ وكذلك أشخاص مثل ابو اسحق القراقيطي أو أبو عبد الله الكوفي أو أبو الفضل أيوب بن سليمان وأمثلة أخرى.

عبر ملاحظة الوزراء وأماكن أصولهم او ولادتهم، يمكن ملاحظة أن الأجيال الأولى من عمر الدولة ولاسيما حينما كانت بغداد في طور البناء فقد كان من البديهي أن يكون المسؤولون من مناطق أخرى. كان الوزراء في الغالب فرساً حتى بدء عصر الأتراك، فكان البرامكة من بلخ في الأصل، وأبو جعفر الفارسي من نيسابور، ويعقوب بن داوود من خراسان، وكان بنو سهل من سرخس في أقصى شمال شرق ايران الحالية. وفي نفس تلك الحقبة تولى عدة وزراء ممن يصعب تحديد كونهم من العرب أو النبط. فيقال عن الربيع بن يونس وبطبيعة الحال ابنه الفضل بن الربيع أنهم من الموالي. ولم نجزم بتصنيف من قيل عنهم أنهم من الموالي بأنهم نبط بل تركنا المجال مفتوحاً فقد يكونون من العرب أو النبط رغم أن التسمية تطلق غالباً على غير العرب، لكن لا يمكننا محاكمة مفهوم القومية في الماضي كما هو اليوم.

أما فترة سيطرة الترك منذ عهد المتوكل حتى مجيء البويهيين في عهد المكتفي فانخفض فيها تمثيل الفرس في منصب الوزارة، فمن اصل 40 وزيراً تولى 7 من الفرس فقط. وهؤلاء هم عيسى بن فرخان شاه، حامد بن العباس، وبني عيسى بن داوود الجراح، وابن مقلة الشيرازي وابنه. يلاحظ في هذه الفترة ايضاً كما اوضحنا مفهوم العوائل، وتغير التركيبة القومية للقادمين الى مركز الدولة في بغداد الى الانصهار ضمن المدينة. نجد أشخاصاً ولدوا في بغداد على الأغلب أو في أطرافها مثل إبراهيم بن مدبر وصاعد بن مخلد. ويظهر أيضاً الجيل الثاني لبعض المسؤولين السابقين مثل عبيد الله بن سليمان بن وهب الذي جاء ابوه من واسط او من قرية بمحيطها. ويظهر أيضاً أن هناك أشخاصاً يحملون أسماء إيرانية لكنهم يعيشون في العراق مثل أحمد بن صالح بن شيرزاد القطربلي الذي ينتسب لقطربل في شمال بغداد لكن اسم جده شيرزاد الذي قد يكون فارسيا او كرديا او ديلمياً. ولا يمكن تصنيف الاعدامات التي يتعرض لها الوزراء في حقبة الاتراك وفق أي أسس قومية، بل يمكن بوضوح ربط ذلك بقوة منصب الوزير بحيث يستطيع حصد الأموال ومن ثم التعرض للتنكيل من قبل الوزير القادم الذي يمتلك بعض القوة ليقوم بذلك مثلما حدث بين بني فرات وحامد بن العباس، وأيضاً يمكن ربط ذلك بقوة الخليفة الذي يفتك بوزراءه مثل فترة القوة في عهد الموفق والمعتضد والنفوذ النسبي لدى المقتدر وكل هؤلاء فتكوا بالوزراء في عهدهم دون أن يرتبط السببان بالأصول والقوميات التي من المرجح أنها لم تعد مهمة بين سكان بغداد.

لا حاجة لذكر فترة البويهيين فلم يكن منصب الوزير موجوداً تقريباً أو مهماً طيلة هذه الحقبة. لكن في الفترة السلجوقية يزداد تمثيل الفرس في الوزارة فنرى سبعة وزراء من اصل عشرين وزيراً، كما تظهر عائلتان بنو صدقة وبنو جهير الذين يظهر منهم 7 وزراء وينتمي هؤلاء لشمال العراق أي من نصيبين والموصل. ثم يغلب الوزراء العرب البغداديون في الحقبة الأخيرة ومنهم ابن القصاب مثلا الذي كان فارسياً من الري جاء أهله الى بغداد وولد فيها أو محمد بن عبد الكريم القمي.

لو كان منصب الوزير يمثل أي علاقة بتمثيل طبقات معينة من الشعب بنفوذ او تعداد معين فإن ذلك سيدل على انخفاض الفرس تدريجياً كتواجد او نفوذ خلال الفترة العباسية منذ الأيام الأولى للدولة العباسية وحتى الأيام الأخيرة. رغم عدم انقطاع قراءة أسماء المسؤولين الفرس حتى الفترة الصفوية في العراق. كما أن العراق بقي متصلاً بايران جيوسياسياً حتى الفترة العثمانية ولم ينفصل عراق العجم عن عراق العرب حتى احتلال الشاه عباس الصفوي للعراق.

وبالاستناد الى قاموس الدوحة فبينما تختفي كلمة مولى مبكراً من الاستخدام العربي بحدود 150 هجرية، فإن كلمة نبط تختفي بحلول 350 هجرية، أي مع نهاية الفترة البويهية. لذا فلا يمكن بعد ذلك التصنيف سوى بعربي وفارسي. ومع ذلك، نجد أن التمايز من هذا النوع في الأسماء لا يبدو واضحاً وكأن هناك محاولة لاثبات القومية. فكثير من الأسماء تبدو محايدة من حيث عدم وجود أسماء إيرانية وكذلك عدم وجود أشخاص يحملون تسميات قبائل عربية باستثناء يحيى بن محمد بن هبيرة الفزاري ويضيف أغلب الوزراء تسمية المدينة لاسماءهم فقط – مثل الشيرازي والقمي والبغدادي – مع بقية أجزاء الاسم في حينها مثل الكنية واللقب مثل جلال الدين، عميد الرؤساء، نصير الدين أو عميد الدولة. أي بشكل عام فإن الهوية القومية لم تكن بتلك الأهمية حيث لا تنعكس على النزاعات ولا يبدو أن هناك محاولة لاثباتها على الأقل ضمن ملاحظتنا على منصب مهم وهو منصب الوزير.

المراجع

[1] ص136 – كتاب الإنباء في تاريخ الخلفاء – أمير المؤمنين المهتدي بالله – المكتبة الشاملة

[2] اعيان الشيعة

[3] ص195 – كتاب وفيات الأعيان – أبو سلمة الخلال – المكتبة الشاملة

بالإضافة لما ورد من مراجع في المقال الوزارة العباسية: النهايات الدموية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *