لعل من أهم معالم النهضة الأوربية فضلاً عن الجانب المشهور جداً المتمثل بالاكتشافات والاختراعات، هي الاصلاح الديني مرفقاً بالظهور الرسمي للغات الأوربية كلغات مكتوبة دون خجل وتواري وراء اللاتينية. يقال أن ما عصم الصينية بلهجاتها من التشتت هو أن كتابتها غير متصلة بالألفاظ فيمكن لنفس الكتابة أن تعبر عن كلمات عربية أو انجليزية، أما اللغات الرومانية وهي الأكثر هيمنة فلها طريق واحد يوحدها وتشترك به مع العربية، إنه اللغة الفصحى.
اللاتينية هي اللغة الفصحى لكل من الفرنسية، الايطالية، الاسبانية والبرتغالية. وفضلاً عن ذلك فقد كان الالمان والانجليز يستخدمونها للمخاطبات وللكتب وللمناظرات والحوارات الادبية والثقافية. تضع اللغة الفصحى الشعوب التي تتكلم بها في حيرة بين رونقها وامتلائها بالمصطلحات المتراكمة عبر الاف السنين وتوحيدها لخرائط أكبر من الشعوب والمتحدثين وفي أحيان كثيرة ارتباطها بالطقوس الدينية لدين معين كارتباط العربية بالإسلام وارتباط اللاتينية بالمسيحية في تلك البلاد. لكن من جهة ثانية فإن الميزة الوحيدة للفصحى هي عدم تفاعلها مع أي ظروف تمر بها الشعوب، لو أردنا تعريفها لقلنا إنها اللغة التي لا تتغير ولهذا فهي بقيت فصحى.
كان الاصلاح الديني (البروتستانتية) في القرن السادس عشر هو أول داعٍ لتحرر الألمان ثم الانجليز من اللاتينية، يقال أنه مع سماح لوثر بالطباعة بالألمانية في القرن السادس عشر كان عدد المطبوعات أكثر بثلاث أضعاف عن الفترة التي سبقت ذلك (كانت الطباعة قد وجدت حديثاً). حرم الملك الفرنسي في وقتها طباعة الكتب وفعلت الفاتيكان أمراً مشابهاً للوقوف بوجه هذه الموجة، لكن دون فائدة. يقال أن آخر ما طبع باللاتينية هو كتاب نيوتن “الفلسفة الطبيعية لمبادئ الرياضيات” عام 1687 وأن فرانسيس بيكون حينما نشر كتابه “تقدم التعليم” عام 1605 أراد فعل الأمر ذاته باللاتينية لكن الأمر لم يتم حتى عام 1623 أي بعد 18 سنة من نشر الكتاب بالانجليزية مما يشير الى تقاعس الناس عن اللاتينية.
هيمنت اللاتينية على البلاد التي حكمتها روما وما وراء ذلك طيلة ما يقارب الالفيتين، وحتى مع سقوط الامبراطورية الرومانية على ايدي الشعوب الجرمانية فإن هؤلاء ذابوا باللاتينية في فرنسا وايطاليا واسبانيا ولم يؤثروا عليها، ويقال أن الجرمان الوحيدين الذين غزوا بلداً آخر وحافظوا على لغتهم هم الانجليز، ذلك أنهم غزوا بريطانيا في وقت كان قد عصف بجانبها الشرقي طاعون ماحق وفضلاً عن الطبيعة اللغوية وطبيعة الشعب البريطاني (سكان ويلز حالياً) التي أدت الى انحسارهم وانحسار لغتهم امام الانجليز.
عوامل التململ والتحرر من اللاتينية لم تكن عبر الاصلاح الديني فحسب، بل بدء الأمر عبر الاقاصيص الشعبية والشعر بالضبط كما يحدث اليوم من شعبية كبيرة للشعر الشعبي والاغاني القائمة على الشعر الشعبي في البلاد العربية، حتى أن الشعر الشعبي بدء يتسلل الى الدين كما في قصائد النعي الشيعية أو بعض الأناشيد الدينية السعودية.
وكما يلقي كثير من المشايخ خطبهم بلهجة عامية للتقرب من الجمهور فإن أول ملامح التخلص من اللاتينية بدأت بهذه الطريقة أيضاً في ألمانيا وفرنسا حينما بدء بعض القساوسة بإلقاء المواعظ بالألمانية أو باللهجة الرومانية الوسيطة بين اللاتينية والفرنسية الحالية. إذاً فبقدر ما يساهم الدين في حفظ لغة معينة فإنه يساهم بتركها ايضاً، ويذكرنا ذلك بسماح أبو حنيفة – الفارسي – بجواز قراءة سورة الفاتحة باللغة الفارسية، الأمر الذي كان قد قام به سلمان الفارسي في عهد مبكر من الإسلام.
إذاً خلال مئات السنين من سطوة اللاتينية كانت خلالها الشعوب الاوربية خجلة من لهجاتها المحلية ومختبئة خلف اللاتينية وبهرجها، لكن في النهاية صار التفاهم صعباً جداً، ولم يعد لاحترام خصوصية اللاتينية أهمية كبيرة. فشرعوا بالاعتراف بلهجاتهم المحلية كلغات. السؤال يتبادر بالتأكيد، هل يُمكننا أن نفعل الأمر ذاته بالعربية؟
أعتقد أننا لا يمكن أن نكرر التجربة مع العربية لأسباب عديدة، منها إن الاعتراف باللهجات الاوربية كلغات كان قد قام على رأس ثورة تكنلوجية جديدة أبرز ما فيها كان يتضمن ظهور الطباعة وثورة دينية تمثلت بالبروتستانتية، ثانياً إن الانتاج الثقافي لتلك الشعوب والاستعداد للانتاج الثقافي فضلا عن الانتقال المبكر للحضارة يجعل واقع تلك الشعوب مختلفاً عن العرب. فهل استطاعت اقليات كتبت لغاتها حديثاً مثل الاكراد ان تحقق نجاحات ثقافية وهي تكتب كما تتكلم والفرق بين اللغة الرسمية واللغة المحكية محدود؟
لكن هل سيبقى الأمر بالنسبة للعرب هكذا؟ هل سيصلون الى يوم يصبح فيه التفاهم بالفصحى غير ممكن؟ ليس هناك الكثير من الناس اليوم ممن يستطيعون فهم الفصحى المكتوبة بشكل جيد واقل منهم بكثير الذين يستطيعون كتابتها والنطق بها بشكل سليم. فإلى أين سيصل الأمر؟ اعتقد أن النتيجة ثقافياً وتعليمياً لن تكون مختلفة الى حد كبير عن الواقع الحالي.
من ناحية أخرى يصور كثيرون الدعوة للعامية على أنها مؤامرة، لو كانت مؤامرة لكان الاوربيون أول المتآمرين على أنفسهم ولنعم المؤامرة تلك التي ارتقت بإنتاجهم الثقافي بعد ترك اللاتينية، ولكان هناك دعاة للوطن الروماني كما في الوطن العربي ولكان هناك دعاة لاحياء اللاتينية كإحياء الفصحى، مناقشة الأمر ليست جريمة والعودة للعامية كانت مفيدة لغيرنا وقد تكون مفيدة لنا لكننا كمتكلمين بالعربية برأيي لا نتمتع بعوامل كثيرة تجعلنا مؤهلين في أي من الطريقين.