ولد بيترو ديللا فاليه (Pietro Della Valle) في روما عام 1586 وتوفي في منتصف القرن السابع عشر عام 1652 وكان أحد مثقفي عصر النهضة الايطاليين ورحالة عرف برحلته الى العراق وبزواجه من امرأة عراقية مسيحية من بغداد. كتابه المعروف برحلة ديللافاليه يمثل قراءة فريدة من نوعها نظراً لطبيعة الأمور التي ينتبه اليها كسائر الرحالة الذين يخصصون اهتماما فريداً لجوانب مختلفة للاماكن التي يزورونها كما يصفون الأماكن بطرق مختلفة بحسب نظرتهم وطبيعتهم، كما يضاف لذلك أنه تزوج من امرأة عراقية مما زاده اطلاعاً على ثقافة المنطقة. في هذا المقال سنسرد بعضاً من مشاهداته وبعض التعقيبات والاستنتاجات المستخلصة منها في تلك الفترة.
جانب من رحلة ديللافاليه يدور في البوادي، وكما اتضح في رحلات رحالة آخرين ذكرناهم في المدونة فإن هناك طرقاً برية صحراوية تماماً تتم بإرشاد البدو وتتمخض احتكاكا اقل مع العشائر وشيوخ العشائر – مثل الأمير فياض أبو ريشة الذي يذكره في احدى رحلاته – وبالتالي مخاطر وأتاوات أقل، فضلاً عن الطرق النهرية والطرق البرية القريبة من الأنهر والتي تنتابها أتاوات من الجنود العثمانيين بالإضافة للعشائر.
الملابس في بغداد والبادية في القرن السابع عشر
في احدى رحلاته في البادية نجده يصف امرأة تركية بدوية بالفصاحة مما يدل على معرفته الجيدة جداً بالتركية، كما أنه يتكلم العربية لكن ليس جيداً. وتثير الانتباه ملاحظة له بأنه ظن ان المرأة عربية لأنها حاسرة الوجه، لكنه فوجئ بكونها تركية، حيث يتضح أن عادة تغطية الوجه في ذلك الحين كانت خاصة بالأتراك لا بالعرب. وأعاد تأكيد هذه الملاحظة في جنوب العراق حيث وصف النساء بعدم تغطية الوجه والرقبة ووصف حلي الرقبة والمعصم مما يشير الى قدرته على رؤية الرقبة ايضاً وقال إن هذا بخلاف النساء التركيات. كما وصف الوشم الأزرق على الشفاه والأيادي وقال إنه شائع في مصر ايضاً.
وعن وصف زي البدويات فيقول: “يلبسن جلبابا من التيل لونه أزرق غامق يصل إلى أقدامهن وهو فضفاض جداً. له أكمام عريضة للغاية بحيث أنهن عندما يرضعن اطفالهن لا يفتحن شق الصدر بل يخرجن الثدي من الكم العريض ويلبسن عباءة في موسم البرد وهي ليست جميلة ولا عريضة كعباءات الرجال لكنها خشنة القماش وضيقة ويضعن في الرأس لفائف من قماش أسود اللون ويحطن وجوههن بنسيج أبيض أو أزرق غامق احياناً”. يبدو الوصف شبيهاً بالزي البدوي اليوم، مع غرابة الثوب الأساسي الذي ترتديه النسوة والذي تكاد في الأكمام تصبح بعرض يكفي لإرضاع الطفل.
زي النصارى في بغداد مشابه لزي الأتراك باستثناء أن غطاء الرأس أكثر طولاً. فهل يعني ذلك أن النساء المسيحيات كن يغطين وجوههن في ذلك القرن بخلاف المسلمات؟ يكمل ديلافاليه وصف الزي: “تلف وجهها بقناع أسود اللون عادة يبرز جمالها وكالبدويات تلتفع بقماش من الحرير الناعم كالتفتة فيه خطوط ومربعات مختلفة الألوان والأشكال لكنها لطيفة تنسدل أمام الوجه وعلى الصدر فتشبه أقنعة الراهبات في ديارنا أو كأرامل اسبانيا. ويتدلى من وراء الجسم طولاً وعرضاً وله نهاية حادة تلمس الأرض أنه في الحقيقة مظهر الجلال والجمال حسب رأيي”. غير أن الإجابة على سؤالنا حول زي المسلمات من النساء في بغداد ليس واضحاً لكنه يؤكد أن القمصان تختلف عن قمصان التركيات وهي على الطراز القديم “لبعد المدينة وعدم وصول التصاميم الجديدة لها”. والقمصان بيض من القطن او الكتان ويلبسن في المناسبات الخاصة القمصان الحريرة الملونة بأكمام مفرطة في السعة والطول (كما يقول عن قمصان البدويات من حيث السعة). الألوان الأكثر انتشاراً للملابس هي القرمزي، الأصفر، والاخضر وبعض المشتقات الجميلة من القرمزي والأزرق الغامق.
سلطة ايران تبدو قوية على جنوب العراق فيذكر أن الشيخ مبارك (لم استطع البحث ان كان من المنتفق أم من طي حيث كان امير العرب منصباً ذو قيمة منذ نهاية العصر العباسي وكان عادة منصب لشيخ طي) ذو النفوذ الواسع في جنوب بغداد وحتى البصرة كان يسك عملة خاصة به ويضع فيها شعاراً يدل على تبعيته لشاه ايران. كما أن حسين افراسياب في البصرة كان متذبذب الولاء أيضاً بين ايران والدولة العثمانية، غير أن الملاحظة المثيرة للاهتمام حول الملابس هي أن الشاه هدد بغزو البصرة مرة غير أنه أضاف شرطاً بأنه لن يغزو لو تعمم أهل البصرة على طريقة الفرس. يدل ذلك على أهمية الملبس في السيادة والولاء والتفريق بين الأقوام المختلفة في ذلك الوقت.
ملاحظات عن الطعام
يسمي ديلافاليه الرز المطبوخ بالبلاو كما هي تسمية بعض الشعوب الإيرانية له، ويقول إن المسافرين الأغنياء يطبخون منه كما يصف مجيء بعض البدو إليهم لتناوله حيث كان نوعاً من التكريم او الشيء الاستثنائي الذي قدموه للبدو. أما ما يأكله البدو فقد كان دقيق الحنطة والذي يصنع من عجينة توضع تحت الرماد. ويصف توفر الحليب الحامض (الرائب او الشنينة) والذي يستهجنه ويقول أن العرب والأتراك على حد سواء يشربونه. فضلاً عن توفر أغذية أخرى كاللحوم والبقول والرز (لماذا يراه البدو مختلفاً اذن لدى المسافرين ليأتوا لتناوله كشيء مميز؟) والثمار الجافة والتمور في المنطقة.
مراتب العرب والديانة الشمسية في عنه
يسرد ديلافاليه تصنيف العرب الاجتماعي حينئذ فأعلاهم شأناً هم البدو، ومن الغريب أنه يذكر أن من يأتي بعد البدو هم المعدان وهم الذين يربون الجاموس وليس لهم مقر ثابت بحسب وصفه، ومن ثم الحضر وأخيراً الفلاحين. غير أن التصنيف بحسب المثال الذي يسرده ليس حاداً جداً فهو يأتي بعنه كمثال فيقول أن “أهلها فلاحون لكن لهجتهم وزيهم وعادات نساءهم وموقع بلدتهم في وسط البادية تجعلهم بدواً حقيقيين لا بل أكثر البدو تمداً في العالم لأن لباسهم ومنظرهم علاوة على أنه محترم جداً فهو ايضاً فريد للغاية إذ أن عدداً كبيراً مهم يلبسون الحرير وعباءاتهم نادرة الألوان وهي عادة مخططة بلونين”.
وبذكر بلدة عنه، يسرد ديلافاليه قصة متبعي الديانة الشمسية في عنه (لا يسميهم هكذا لكن ورد هذا الاسم في اخبار عنهم): “لا صيام عندهم ولا صلاة ولا يقيمون شعائر العبادة لله ولا يأخذون القرابة الدموية بعين الاعتبار عند الزواج” ويضيف: “ويعتقد محدثي انهم يعبدون الشمس لأنهم ينحنون لها صباحاً عند شروقها ويحيونها بالتمتمات والرموز الخاصة ويفعلون ذلك سراً لأنهم إذا اظهروا ذلك جهاراً يعرضون أنفسهم الى اشد العقوبات”. ويذكر أنه شهد حالة تم فيها احراق كتاب لهذه الديانة.
البناء في بغداد
آثار الخرائب والعمران السابق الذي يذكره رحالة آخرون يتطرق اليه ديلافاليه ايضاً، فيسرد سوء فهم شائع بأن بغداد هي بابل نظراً الى سهولة العثور على آجر قديم حين الحفر في أي مكان وهكذا هو الحال بين بغداد والبصرة فيسوق مثلاً قديماً عن واقع العمران المتصل والمستمر بين بغداد والبصرة بأن ديكاً فر من بغداد فعثر عليه في البصرة، أي أن الديك ظل يقفز بين سطوح المنازل التي تكاد تتصل في القرى الصغيرة التي تربط كامل تلك المساحة (لو راجعنا مقال نهاية العراق الزراعي في القرن التاسع الميلادي لرأينا تصوراً مشابهاً).
بيوت بغداد طينية منخفضة الارتفاع من طابق واحد (ليس هناك آجر وشناشيل) ومظلمة دون نوافذ سوى فتحة صغيرة في كل غرفة ولا يدور الهواء في تلك الغرف بل فقط في الفناء وفي غرف الديوان التي يصفها بأنها غرف مفتوحة على شاكلة الغرف الاسطنبولية، غير أن الطابوق الطيني الذي تصنع منه جيد كما يصف ديلافاليه. في بعض الأحيان هناك غرفة في الطابق العلوي لكنها ليست للسكن، والسرداب موجود في البيوت حيث يقضي فيه الناس معظم الوقت في الصيف.
الفراغات الكبيرة بين ابنية بغداد – والتي يمكن أن نتصورها من تلك الحقب لو اطلعنا على تاريخ التكايا في المدينة – تملأها البساتين التي تتخلل انحاء المدينة بين البيوت وفي الأراضي غير المشيدة وتضم النخيل والرمان ونباتات يقول أنهم كأوروبيون لا يقدرونها مثل الأفيون والنباتات المخدرة.
الحر في النصف الأول من القرن السابع عشر يبدو شبيهاً بالحر اليوم في بغداد حيث يقول أن الناس ما زالوا ينامون في الفناءات المفتوحة وغرف الديوان رغم أنهم في شهر كانون الأول. أي أنه شتاء حار كالذي تشهده بغداد في بعض المواسم اليوم وربما اسوء من ذلك.
ومثل بغداد، تبدو بيوت الحلة في ذلك القرن أكثر تواضعاً، لكنها من ذات الطراز الطيني المصمم لاتقاء الحر مع فارق وجود المزيد من النباتات والأشجار المحيطة بالبيت. سوق المدينة أيضاً يبدو مظلماً والمدينة تبدو من بعيد وكأنها غابة من النخيل والأشجار.
المسيحيون في بغداد
يقول ديلافاليه ان المسيحيين قد جاؤوا حديثاً الى بغداد نتيجة للقلاقل ببلاد أخرى ونتيجة لذلك يقول أنه لا توجد كنيسة لهم وأن القداس يقام سراً بأحد البيوت. عارض صديق لي ما وصفت من ديلافاليه لكن كونه قد ناسب عائلة مسيحية بغدادية كما سنأتي فإن شهادته لا يمكن الاستهانة بها. نرى أن أقدم كنيسة في بغداد اليوم هي كنيسة مريم العذراء للأرمن والتي شيدت بعد او اثناء تعاقب ديلافاليه على بغداد. كما أن كنيسة أم الأحزان هي الأخرى قد أنشأت في ذات الحقبة لكنها أحدث من ذلك.
الفتاة التي تزوجها ديلافاليه هي معاني جويريدة وهي من أسرة تعد مثالاً على ما يذكره من الاسر المسيحية القادمة الى بغداد حديثاً حيث جاءت الفتاة مع اسرتها من ماردين وهي بعمر 4 سنوات ويشدد “لم يكن هناك نصارى أبداً” في الحقبة السابقة لذلك. ويقول إن انعدام الكنائس في المنطقة اضفى جهلاً شديداً على المسيحيين في المنطقة وجعلهم لا يفهمون أي شيء بالدين.
يصف ديلافاليه عادة يقوم بها الصبية المسيحيون في عيد الميلاد ويقول إنهم في روما يقومون بذات الشيء في عيدي القديسين بطرس وبولص والعادة تتمثل بالقفز فوق النار، ثم تقوم الفتيات بايقاد شموع من تلك النار ووضعها جانباً فاذا انطفئت الشمعة قبل انتهاء الحفل كان ذلك علامة على سوء الطالع.
الجانب المؤسف من قصة ديلافاليه أن زوجته معاني التي أحبها بشدة قد توفيت بينما كانوا في ايران حيث غادر معها الى هناك بعد الزواج منها. وقد أصر على حمل جثمانها بتابوت معه الى روما لدفنه هناك.